هل تداخلت السياسة بالدين فى سوريا؟ طبعا، فالسياسة تتدخل فى كل شىء، تتغلغل إلى حيث المصالح؟
تقترب السنة من آخرها وتظهر من مكان ما فى الذاكرة أنوار خافتة من وراء شبابيك البيوت، نسترق النظر فنرى شجرة مزينة باللونين الأحمر والذهبى داخل شقة فى الطابق الأول الذى يطل على الشارع. الطقس بارد، وشوارع المدينة القديمة مكتظة كعادتها. محلات الحلويات وضعت فى واجهاتها قوالب من الحلوى على شكل بيوت ثلجية، يقف أمام كل منها تمثال بابا نويل صغير يلوح بيده.
أخذ الكثير من السوريين فى سنوات الأزمة الأخيرة بالدفاع عن تعددية المجتمع فى سوريا وتنوع أعراقه وأديانه، فى وجه الحرب الطاحنة التى يتم تبسيط وصفها بالقول أنها طائفية. وقد ظهرت فى أحاديث السوريين عبارات مثل «والله الواحد طول عمره ما كان يعرف إذا جاره مسلم أو مسيحى». وعلى رغم تفهمنا للهدف النبيل من وراء قول كهذا، والرغبة الجمة فى التأكيد على التعايش الدينى والعرقى وحتى الثقافى أحيانا بين المجموعات التى شكلت من سوريا لوحة رائعة من الفسيفساء نفخر بها كلنا، إلا أنه فى الحقيقة، فى الحارة وفى العمارة، كان الجميع يعرف أن أم أحمد مسلمة، وفيوليت مسيحية وشيرغو كردى. يعرفون ذلك أحيانا دون الدخول فعلاً فى تفاصيل اختلاف المسيحيين الأرثوذوكس عن الكاثوليك، أو دون الخوض فى أن «بيت فلان أكراد بس صار لهم زمان فى دمشق» بمعنى أنهم ثقافيا باتوا دمشقيين. يعرف الجميع منْ من الجيران من ملتهم ومنْ منْ ملة أخرى، لكن ذلك لم يشكل فى الغالب أساس العلاقات الإنسانية بينهم، وإن كان يؤثر أحيانا على تصور أحدهم لغيره. «متل اليهودى، ما بتاخد منه لا حق ولا باطل»، ترتبط كل مجموعة دينية بتوصيفات أصبحت ضمن اللغة اليومية للسوريين. «الأرمنى شاطر وشغيل، أحسن شغل دهب من تحت إيدين الأرمن».
***
تتصادم الروايتان، رواية الشعب المتنوع والمتعايش دون أية حساسيات، ورواية حرب اصطفت أطرافها على أساس طائفى، فيصرخ أحدهم «نحن طول عمرنا عايشين مع بعض بدون مشاكل» فيجيبه الآخر «بس اليوم صار لازم كل مجموعة تعيش لوحدها».
من الصعب جدا التفكير بسوريا دون رؤية حاراتها القديمة حيث تظهر مئذنة قرب الكنيسة، عند مدخل ما يزال يسمى حى اليهود. من الصعب الحديث عن تقسيم جغرافى على أساس دينى دون أن أتذكر مشاكسات أقرب صديقتين لى فى المدرسة، حول ما إذا كانت الجمعة الحزينة التى تسبق عيد الفصح قد تلبدت فيها السماء، وأمطرت حسب تاريخ تقويم الكاثوليك أم الأرثوذوكس. أما أنا، فكان همى خلال تلك المشاكسات هو بيت من منهما سأزور أولاً لأعايد العائلة وآكل حلوى العيد.
إن الإصرار على أننا لم نكن نعرف ملة جيراننا وأصدقائنا فيه شىء من التبسيط الساذج. فجمال وقوة سوريا، وغالبا سبب إصرار البعض على موقف كهذا، يكمن فى اختلاط أعراقها على مدى التاريخ، تعايشوا أحيانا وتحاربوا أحيانا أخرى. نسجوا صداقات فيما بينهم وتشاجروا وتصالحوا، تكاتفوا وقت الأزمات أو تكتلوا ضمن مجموعاتهم، ثم عادوا فانسجموا. فموقع سوريا الجغرافى لم يكن ليسمح إلا بمجتمع متنوع، يذكر المرء بلوحة الألوان التى يمزج الرسام عليها الألوان الزيتية قبل أن يستعملها على القماشة البيضاء الكبيرة، يخلط بريشته الأصفر والأزرق، ويضيف نقطة أحمر ثم يعود للأزرق، وهكذا تداخلت الطوائف فى سوريا، معروف أصل كل لون فيها، لكن الألوان مخلوطة أحيانا وفردية أحيانا أخرى على الخلفية البيضاء.
***
هل تداخلت السياسة بالدين فى سوريا؟ طبعا، فالسياسة تتدخل فى كل شىء، تتغلغل إلى حيث المصالح. هل أثر ذلك على التعايش الذى كثيرا ما ندافع عنه؟ أحيانا، لكن كل مجموعة حافظت بشكل عام على خصوصيتها إلى حد كبير، بل حتى الزواج بين المجموعات لم يكن مطروقا بكثرة، إنما عاش الجميع فى أحياء مختلطة، قد تغلب مجموعة عليه فتكون أكثرية فيه، لكنها لم تكن قط وحيدة فى ذلك الحى. فحى اليهود عاش فيه مسلمون ومسيحيون، وفى وسط سوريا، المحسوب على المسيحيين، تتجاور القرى والمدن المسيحية والإسماعيلية والسنية، ثم تلتقى جميعها على ساحل المتوسط بالمناطق والقرى العلوية المتداخلة مع القرى والمدن ذات الغالبية السنية أو المسيحية. أما الشمال السورى فآفاقه بألوان الغروب، حمراء وبرتقالية وصفراء وزرقاء، فيها الأكراد والآشوريون والمسلمون وعلويو الإسكندرون، بينما تغرد فى الجنوب لهجة الدروز الموسيقية، وتظهر هنا وهناك ألوان الشركس، فيتبارى الشركس والدروز فى جمال أبنائهم وبناتهم.
النتيجة سجادة ملونة مزخرفة خيوطها متشابكة، بهتت فى بعض المناطق ألوانها لكنها لم تتفكك حياكتها، مضى عليها الدهر وهى تشيخ بجمال وزهو، ينظر إليها الزائر فيرى خطوطا وأشكال هندسية، يرى ورودا ونقوشا، يبتعد فتظهر له لوحة متكاملة، يقترب فتظهر الاختلافات ضمن الإطار.
هل فعلاً شد أحدهم أول الخيط من تلك السجادة القديمة، فبدأ النسيج يتفكك خطا من الخيوط بعد خط؟ هل خرج اللون الأصفر من النقشة فى طرف السجادة؟ من يتكلم بثقة عن تقسيم سوريا جغرافيا قد يتهم المدافع عن تنوعها بالسذاجة، من يرى الحل فى دويلات صغيرة أحادية اللون والنكهة والعرْق يضرب بقدمه لوحة مزخرفة بفسيفساء ملوة ومتماسكة لكنها هشة. نحن، بأعراقنا وطوائفنا، كطاولة الطعام يوم العيد: أطباق صغيرة وكبيرة، مواد مختلفة، بعضها بارد وبعضها يخرج منه البخار، نلون بعضنا البعض فنظْهر أجمل ما فينا وما فى الآخر، نفرش سجادتنا فتتطاير منها نجوم ملونة تحلق فوق رؤوسنا ونحن جالسون. هل فعلا دخلنا مرحلة العرق الواحد والطعم الواحد؟ أظن أن هذا السؤال أصبح بالنسبة لسوريى الشتات، الذين تمشوا فى الحارات القديمة أيام عيد الميلاد والسنة الجديدة، كسكينة طعنتنا وبقيت فى الجرح تتحرك، لا نعرف كيف نسحبها ولا نعرف إذا ما سحبناها كيف سيلتئم الجرح، كما نعلم تماما أننا إن تركناها فى جسدنا فهى فى الغالب ستقضى على أم أحمد وفيوليت وشيرغو، وستقضى علينا جميعا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة