بداية، لا يتسق تجنيد النساء مع أدبيات التنظيمات الأصولية في نظرتها الى المرأة كقاصر تحيط بها جملة من المحرّمات.
توسعت التنظيمات الجهادية خلال العقد الأخير في توظيف النساء في عملياتها. فالتضييق الأمني على الإرهاب يؤدي به إلى مرونة في اجتراح الوسائل المبتكرة التي تساعده على النجاة وتحقيق أهدافه. وباختلاف الفضاءات الاجتماعية السياسية، ظهرت عشرات الحالات لتجنيد النساء في صفوف «القاعدة» و»داعش». وراوحت المهمات الموكلة اليهن ما بين الدعم اللوجستي وجمع التبرعات والدعاية وصولاً إلى المشاركة الميدانية في العمليات الإرهابية. وصُدم الناس بدراما مهولة عمادها الهاربات من بيوتهن الآمنة في تونس والسعودية وبريطانيا، للإلتحاق بركب «القاعدة» أو «داعش» في سورية والعراق.
بداية، لا يتسق تجنيد النساء مع أدبيات التنظيمات الأصولية في نظرتها الى المرأة كقاصر تحيط بها جملة من المحرّمات. الاستغلال جلي وقوي، ولن تكون المرأة في النشاط الارهابي أكثر من حجر بيدق. غني عن القول أن هذه التنظيمات الجهادية ليس بينها على سبيل المثال وبين الحركات اليسارية أو القومية التي سادت في زمانها أي مشترك في الرؤى والتصورات حيال المرأة، لذا لا يمكن لقارئ التاريخ أن ينعت «الجبهة الشعبية» مثلاً بالانتهازية، حين جندت ليلى خالد في الستينات من القرن الماضي.
بالنسبة الى نساء «داعش» و»القاعدة»، يُسطح البعض الأمر كثيراً حين يُقاربه على هذا النحو: الفتاة تهجر عالمها الشخصي، لتتبرع بالطبخ والنفخ للمقاتلين، أو لتستمتع باستعبادهم الجنسي لها، الذي نحت له بعض التوانسة مصطلح جهاد النكاح. هذه في رأيي هجائية فارغة.
العامل المعرفي هو عامل رئيس في حكاية أي امرأة جهادية، في أي فضاء كانت. لا بد من أساس فكري خلف المرأة الجهادية سواء كان هذا الأساس عميقاً في تكوينها المعرفي كالسعودية هيلة القصير مثلاً، أو طارئاً حديثاً كما هو حال االفرنسية من أصول مغربية حسناء آيت بولحسن.
العامل المعرفي هو تلك القيم الأصولية والمثل العليا التي آمنت بها الفتاة في مرحلة التأسيس، وجوهرها استعادة عالم الإسلام الطوباوي، أو العودة بالهوية المنتخبة الأسطورية إلى اللحظة الراهنة عبر رحلة مجللة بالتضحيات. نساء يعانين التصدع والفراغ الوجودي في عالم يعج بالمشاغل والموجودات ولكنه يفتقد إلى المعنى. نساء يبحثن عن إرادة المعنى كما يقول فيكتور فرانكل. وهنا تكون المرأة أكثر صدقاً من الرجل في حلمها بالفردوس الأرضي، لأن فؤاده معلق أكثر بالفردوس السماوي، وبما ليس لها، بالحور العين يتغزل بهن إنشاداً، بينما يتزنر بالحزام الناسف. لكن هذا العامل الرئيس لن يكون كافياً لدخول المرأة في أتون التجربة الرهيبة، إلا من خلال تعزيز عدد من العوامل الأخرى له.
هذه العوامل الثانوية تتغير بتغيّر الفضاءات الاجتماعية الثقافية للنساء أمام ثبات العامل المعرفي الذي سلف ذكره. إذاً نحن أمام جوهر ثابت وعدد من العوامل المتغيرة، تتفاعل كلها مع مكونات البيئة في منظومة واحدة. لكن ما يصح أن يكون فاعلاً من العوامل مع إحدى الجهاديات، قد لا يكون كذلك مع جهادية أخرى، لاختلاف المجالين العام والخاص.
الانجذاب الى الرجال الجهاديين عامل لا يمكن اغفاله، فهم يمثلون نموذجاً لنساء فقدن النموذج أو اختبرن النماذج الخاطئة المأزومة. علينا تلمس سُبل التحليل لا الإدانة. تقع نساء هشات في مصيدة الجنوح لرجال اختاروا القوة الغاشمة، وإن اختلفوا في نمط العيش، بين مؤثر حياة الزهّاد كمعظم رجال «القاعدة»، وبين مستعرض بالسيارات الفاخرة والأسلحة الفتاكة كغالبية «الدواعش». في هذه الحالة تتفاعل هيئة الإرهابي ولغته وأسلوب حياته كإشارات رمزية تُسهم في تشكيل صورته الذهنية وإنضاج سردية الغواية. السردية التي ترمم الانكسارات في نموذج الرجل الواقعي. من المقالات ذات الدلالة ما نشرته صحيفة «القبس» في عام 2011 لكاتبة كويتية يشتمل على تشوق نفسي وإيروتيكي لأسامة بن لادن.
«الجاذبية المميتة» إذا استعرنا اسم فيلم مايكل دوغلاس الشهير، قادت المرأة السعودية التي وهبت نفسها لأبي مصعب الزرقاوي في مراسلاتهما، إلى التخلي عن وضعها المرموق كأستاذة في جامعة سعودية عريقة. تسللت العاشقة إلى العراق، لتلقي بنفسها في حضن الزرقاوي وتُنجب منه، ثم تُقتل لاحقاً في قصف طاول الأنبار. مجرد مثال يمكن تتبعه لسطوع حبكته الدرامية. كان العامل المعرفي منفرداً سيبقي هذه السيدة في قاعات الدرس لتبرمج عقول الشابات بفكرها المتطرف، لكن شيئاً ما حدث وصنع مساراً وخاتمة تصلح للروايات.
استعادة الحرية المصادرة عامل آخر لدى الجهاديات، وإن كان هذا هو الجزء المكبوت والمهم في العملية. أكثر هؤلاء النساء عشن منذ نعومة أظفارهن في صناديق أسرية مغلقة، ورُبّين على أنهن طرائد وضعيفات وعورات. اختبرن التهميش ورضين به تبعاً لقراءات دينية محددة. والآن تتاح لهن فرصة كسر التابو، تبعاً لقراءات دينية أخرى، هي في جوهرها أكثر تطرفاً من الأولى، وهنا المفارقة. بل ويصبح متاحاً لهن تقليد سيماء ذكورية محرّمة ومشتهاة في الوقت نفسه، لذلك رأينا الجهاديات يُهددن عبر «تويتر» بالتفخيخ والنسف، كما فعلت ندى معيض القحطاني المعروفة بأخت جليبيب مع قناة «العربية».
أكثر السعوديات الجهاديات خرجن من بيوت متطرفة، فهن بنات وأخوات وزوجات إرهابيين موقوفين، أو قُتلوا في مواجهات أمنية في الداخل، أو من الفارّين إلى الخارج. درستُ حالة 17 سعودية تورطن في أنشطة «القاعدة»، وخرجتُ بخلاصة أنه يمكننا البحث عن شيء أسميه «متلازمة الأسرة الإرهابية».
تعزز لدي الاحتمال أن هؤلاء النساء تلقين تنشئة أسرية بالغة التزمت، قائمة على التحريم والتصلب والفكر الأحادي. نساء بقدر ما أجرمن، بقدر ما كنّ ضحايا نظام أسري قمعي، غذى فيهن مشاعر سلبية وأفكاراً مغلوطة نحو الذات والآخر والعالم. مشاعر قائمة على السخط والكراهية. نحن أمام فتاة حُوصرت في خياراتها وأفكارها، وشُوهت بنيتها المعرفية، ولم تختبر دفق الحياة، ولم يُتح لها هامش التجربة والنمو النفسي.
عدد من الإرهابيات السعوديات تسللن إلى اليمن وسورية في رحلة إلى المجهول مع رجال شديدي الخطورة لا يمتون لهن بصلة. مغامرة عبر جغرافيا صحراوية موحشة وبطريقة تصادم العقل والذوق. مغامرة تُشرعنها التنظيمات الجهادية مع هتكها لمبادئ الإسلام، وهكذا تتجلى الانتهازية في أتعس صورها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة