أتذكر في العام 2000 -وفي بداية عملي مراسلا لصحيفة الأهرام المصرية في جنوب إفريقيا- أن قررت مطالعة تاريخ وحاضر جنوب إفريقيا
يقال إنه لكي يدرك المرء تاريخ أمة، فإن من بين الأشياء التي يجب أن يطلع عليها هي متحفها الحربي؛ فالمتاحف الحربية ليست فقط قطعا من الأسلحة التي تتراص لكي تتعرف عليها وعلى قدراتها النيرانية وتاريخ استخدامها في الحروب، وإنما هي تروي تاريخا عسكريا وسياسيا واقتصاديا وحضاريا ليس فقط للدولة صاحبة المتحف، وإنما للإقليم الذي يضمها والدول التي تقع فيه. ومن هذا المنطلق، فإن المتاحف الحربية تعد بمثابة أكف للأمم تقرأ فيها تاريخا وحاضرا ومستقبلا.
أتذكر في العام 2000 -وفي بداية عملي مراسلا لصحيفة الأهرام المصرية في جنوب إفريقيا- أن قررت مطالعة تاريخ وحاضر- وبناء على ذلك مستقبل - جنوب إفريقيا بزيارة متحفها الحربي الواقع في مدينة جوهانسبرج، وهو متحف بديع يحوي تاريخ، ليس فقط جنوب إفريقيا، وإنما تاريخ القارة بأسرها، بل وجانبا مهما من تاريخ العالم.
كنت أجول في ساحات المتحف حتى جمدت أمام دبابة وضعت أمامها لافتة كتب عليها: "دبابة مصرية سوفيتية الصنع وقعت في أسْر جيش "الدفاع" الإسرائيلي في منطقة الحسنة وسط سيناء يوم التاسع من يونيو عام 1967 خلال حرب الأيام الستة".
بالطبع كان يوجد على اللافتة معلومات أخرى مغلوطة عن هذه الحرب، ومن بينها أن تلك الحرب كانت دفاعية من إسرائيل ردا على التهديدات المصرية لها، بالرغم من أن الواقع مخالف تماما، بشهادة مؤرخين ثقاة ليسوا مصريين.
وتختتم اللافتة بأن هذه القطعة أهديت من حكومة إسرائيل إلى حكومة جنوب إفريقيا "العنصرية" في ذلك الوقت.
وبعيدا عما تمثله هذه القطعة الأسيرة من إهانة، فإنها –وهذا هو الأخطر– تعد تزييفا للتاريخ؛ والأشد خطورة هو أن المتحف مزار رئيسي لطلبة المدارس بمراحلها المختلفة. استفزني مشهد طلبة في المرحلة الثانوية كانوا يقفون أمام الدبابة ويستمعون إلى مزيد من المعلومات المغلوطة من الدليل المصاحب لهم من إدارة المتحف. دقائق، واستأذنت الرجل في أن أصحح بعض المعلومات بعد أن قدمت نفسي بصفتي الصحفية وبأنني مصري. ويبدو أن الرجل لم يكن يتخيل إنني سأنقض ما حملته اللافتة من معلومات ناهيك عن المعلومات التي ذكرها للطلبة، وعندما أفاق ثار وطلب مني الكف عن الحديث لهم، وهو ما رفضته حتى اضطر في النهاية أن يأتي بأفراد الأمن الذين اصطحبوني إلى مدير المتحف. بدأ المدير حديثه معي مغاضبا حيث أكد لي أن ما أقدمت عليه مخالف للوائح المتحف ومن أن مسئولية المعلومات بغض النظر عن صحتها هي مسئولية خالصة للمتحف التابع للدولة. تفهمت وجه نظر المدير، وإن سجلت اعتراضي على كون هذه القطعة مهداه من حكومة دولة كانت متحالفة مع النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا، في حين أن مصر كانت تدعم الأغلبية السوداء من أبناء جنوب إفريقيا ضد هذا النظام العنصري.
تحدثت مع السفيرة المصرية في ذلك الوقت، مطالبا إيها بأن تخاطب الجانب الجنوب إفريقي لكي ترفع تلك الدبابة، أو أن يتم تصحيح المعلومات الواردة في اللافتة الموضوعة أمامها، وكان رد الفعل المبدئي الاستغراب، ثم جاء الرد صادما. قالت السيدة السفيرة إنه توجد العديد من القضايا الأهم في إثارتها من مجرد دبابة ولافتة. حاولت أن ألفت نظرها إلى أن المسألة ليست مجرد دبابة ولافتة، وإنما هو تاريخ يزيف ووعي جمعي لجيل جديد في دولة مهمة لنا يتم تشويهه فيما يتعلق بصورة مصر الذهنية. بالرغم من كل ما سقته من حجج لم أجد سبيلا إلى عقل ولا قلب السفيرة.
في النهاية، اضطررت لنشر هذه الواقعة في صحيفة الأهرام، مطالبا الحكومة المصرية التدخل لدي الجانب الجنوب إفريقي بلفت نظرهم إلى أن هذه الهدية تلقتها حكومة عنصرية معادية للأغلبية السوداء في الوقت الذي كانت فيه مصر شعبا ودولة يخوضان حربا ضد نظام بريتوريا العنصري تضامنا مع الاخوة الأفارقة. وأكدت أن أضعف الإيمان - في حال لم تستجب حكومة بريتوريا للطرحين اللذين طرحتهما على السفيرة- أن تهدي مصر لجنوب إفريقيا دبابة إسرائيلية من تلك القطع الكثيرة التي وقعت في الأسر في حرب عام 1973 وأن توضع أمامها لافتة تحمل التاريخ الحقيقي لحرب يونيو 1967 لإصلاح هذا الخلل.
الغريب- والذي لم يعد غريبا فيما بعد- أن لا أحد في الدولة رد على ما نشرته، لدرجة أنني حسبت لبعض الوقت أن المسألة ليست بالأهمية التي اعتقدتها، ومن أن كل هذه الاعتبارات الخاصة بتاريخ يزيف، وصورة ذهنية لأمة تشوه هي أشياء لا اعتبار لها. ذهبت مرتين إلى المتحف كي أقف أمام "دبابتي" الأسيرة مكسور الخاطر وقد تملكني إحساس بأن الدبابة تحولت إلى أن تكون ملكية شخصية لي. والحقيقة أن اللامبالاة التي صدمت بها من جانب الدولة دعمت لدي الاحساس بأنه لم يعد لتلك الدبابة غير شخصي الضعيف الذي بات عاجزا على أن يحررها من الأسر.
انقطعت بعد ذلك عن زيارة المتحف، بعد أن أصبحت عاجزا على أن أذهب من دون أن أتسمر أمام "دبابتي" مستشعرا مرارة في حلقى. مرت سنوات قبل أن تواتيني الجرأة أن أعاود زيارة المتحف قبل شهور من مغادرتي النهائية لجنوب إفريقيا. وأتذكر أن قلبي علت دقاته وأنا أقترب من ذلك الجناح الذي ضم الدبابة الأسيرة، وكانت المفاجأة أنها لم تعد قائمة هناك. بحثت عن دليل من أدلة المتحف الذي أجابني بأن المدير قرر منذ فترة أن يرفع تلك القطعة من المتحف. حمدت للرجل ما فعله، ولكني حتى هذا اليوم لا أستطيع أن أحمد للقائمين على دولتي ممن تعاقبوا على حكوماتها تفريطهم في التاريخ.
مرت على هذه الوقائع ما يقرب من 15 عاما، وبالرغم من ذلك مازالت صورة "دبابتي" المصرية الأسيرة ماثلة أمام ناظري ولسان حالها يسألني: لماذا لم يبادلني أحد كأسرى حرب؟ ولعل أكثر ما أصابني بالرعب في ذلك الوقت هو حقيقة أن من يفرط في تاريخه، يسهل عليه مع الزمن أن يفرط في حقوق جغرافيته، وهو ما سآتي عليه بالتفصيل في القادم من الأيام...
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة