رأينا ذلك في نتائج المؤتمر العام لـ «فتح»، مثلما رأيناه في شكل صادم في نتائج الانتخابات التشريعية التي فقدت خلالها الغالبية لمصلحة حماس
في أعقاب رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات سادت الساحة السياسية الفلسطينية فكرة أشاعت قليلاً من التفاؤل بين متابعين ومهتمين كثيرين كنا منهم، تقول إن مركزية القرار السياسي في يد الرئيس الراحل والتي جاءت من قوّة شخصيته وحضوره، هي على العكس مما كان يشاع عن مخاوف الفراغ بعده، بل هي ترفع من شأن المؤسسة على حساب الفرد.
هكذا قام التفاؤل آنذاك على مقولة إن خليفة أبو عمار بحكم افتقاره إلى إجماع شامل حول شخصه سوف يفسح في المجال لمساهمات الآخرين، بل لمشاركتهم معه في صنع القرار على نحو يساهم في استعادة استقلالية المؤسسات الوطنية لدورها وحضورها.
مع ذلك جاءت الوقائع على غير ما يشتهي المتفائلون، بل أكثر من ذلك لم يتمكن خليفة الرئيس الراحل من تحقيق درجة كافية من الإقناع، لا للساحة الفلسطينية بجماهيرها وفصائلها وأحزابها، ولا حتى لحركة فتح التي ينتمي إليها والتي أهّلته لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبعدها رئاسة السلطة.
رأينا ذلك في نتائج المؤتمر العام لـ «فتح»، مثلما رأيناه في شكل صادم في نتائج الانتخابات التشريعية التي فقدت خلالها الغالبية لمصلحة حماس.
فتلك الانتخابات بالذات لم تكن مجرّد خطأ في «خطة» التحرك الانتخابي بمقدار ما عكست حال الترهل والفوضى وغياب القرار الفتحاوي، ولعلنا نستذكر هنا التعليق الأول وذا الدلالة الذي أطلقه الرئيس أبو مازن فور إعلان نتائج تلك الانتخابات، إذ قال يومها: لقد نلنا أصواتاً أكثر، ومقاعد أقل، في إشارة واضحة إلى تبعثر أصوات الفتحاويين وأنصارهم مقابل تمركز أصوات الحمساويين وأنصارهم، كما حدث في مدينة الخليل مثلاً والتي ترشّح لها عن فتح ثمانية وعشرون للمنافسة على تسعة مقاعد فلم يفز منهم أحد، فيما ترشح تسعة حمساويين نجحوا جميعاً.
لم تتوقف «فتح» عميقاً أمام تلك الأحداث، بل هي أكثر من ذلك اعتبرت خسارة الانتخابات (ومن بعدها خسارة غزة في الانقلاب الحمساوي الدموي) مجرّد «نكسة» وقعت لأسباب «فنية» تتعلق بأخطاء فردية ارتكبها هذا أو ذاك من قادة فتح وقادة المؤسسات الأمنية، ولم تصل المراجعات الفكرية والسياسية إلى ملامسة الأزمة بعمق لتدرك فداحة المآل الذي وصلت إليه فتح، ولا انعكاسات ذلك على الساحة الفلسطينية ككل.
نضيف إلى ذلك فشل الهيئات القيادية الفتحاوية في إدارة مؤسسات السلطة الوطنية التي آلت إليها بعد اتفاق أوسلو، وهو فشل عبّر عن نفسه في ضعف العلاقة اليومية بينها وبين جمهورها، ولكن أيضاً في تعمّق الفساد في أوساط واسعة من الكوادر والقيادات التي دفعتها قيادة فتح لمؤسسات السلطة فخسرتها الأطر التنظيمية الفتحاوية ولم تربحها مؤسسات السلطة ذاتها، وعلى نحو بات معه منطقياً أن ترتفع الأصوات في صورة مستمرة للتنديد بحال الفساد شبه الشامل الذي تعيشه مؤسسات السلطة ويجعلها في حال اغتراب عن شعبها وجمهورها.
لم يقل أحد أخطأنا، والأدق لم يقلها أحد وهو يعنيها بعمق، فلا تزال أوساط نافذة في فتح تخلط بين أن تكون فتح رائدة الكفاح المسلح وأن تظلَ مقنعة لشعبها بعد، على ما بين المفهومين والحالتين من فوارق كبرى لا يمكن ردمها إن لم تتمكن فتح من استعادة ذاتها باستعادة حيويتها ودورها. لا أعتقد ولا يمكن لعاقل أن يعتقد بأن ذلك ممكن من دون أن تتمكن فتح من أن تكون مقنعة لكوادرها ومنتسبيها الذين لا يخفى على مُكابر أنهم يعيشون ضياعاً سياسياً وتنظيمياً بسبب وهن العلاقة بينهم وبين القيادة الأولى.
أما غياب مبدأ المحاسبة فسبب الأسباب وعلَة العلل كما يقولون، لكن لذلك حديث واسع لا يجوز تناوله في عجالة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة