بقي البُعد الدولي الخاص بما نراه من تحالفات تتم الآن بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، رغم استمرار محاولات أوباما للتفاهم مع موسكو
في مقالين سابقين تناولنا الرؤية الخاصة بإنشاء دولة "سُنية" ما بين العراق وسوريا، في المنطقة التي يسيطر عليها "داعش" حاليا، وذلك في ضوء مقال نشرتْه مؤخرًا صحيفة "نيويورك تايمز" للمسؤول السابق جون بولتون، أحد قادة المحافظين الجدد، وهو التيار الذي كانت له سيطرة كبيرة في الفترة الأولي لإدارة بوش، وكان له دور مهم في الدفع لغزو العراق.
وقد حاولتُ في مقالي السابق بحث الآثار التي يمكن أن تترتب على إقامة هذه الدولة، وما يعنيه ذلك لدول المنطقة. لكن بقي البُعد الدولي الخاص بما نراه من تحالفات متنافسة تتم الآن بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، رغم استمرار محاولات -أظنها جادة- من إدارة أوباما للتوصل إلى تفاهم مع موسكو وكذلك إيران بشأن التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة. لكن محاولات التواصل مع الدولتين لا تنفي التحالف الأساسي لواشنطن مع عدد من الدول "السُّنية" في المنطقة لمحاربة داعش، وإن كانت جهودها حتي الآن لا تزال محدودة التأثير لأنها اقتصرت على الهجمات الجوية، دون أن يكون لها أذرع على الأرض. وهنا ربما يأتي التحالف الجديد الذي يتشكل الآن بقيادة السعودية لتعويض ذلك النقص وتوفير قوات كافية ليس فقط لهزيمة "داعش" ولكن أيضًا للحفاظ على ما تتم السيطرة عليه من أراضٍ والتأثير بالتالي على مجريات التسوية السياسية النهائية.
لست الآن في مجال بحث تركيبة هذا التحالف باعتباره تحالفا سُنيًّا بشكل واضح، فالمهم هي رؤيته الاستراتيجية. وإذا ما حدث تدخل في سوريا كما هو متوقع أو باحتمال أقل في العراق بما سيتعارض حتمًا مع موقف حكومة بغداد التي تم تجاهلها مع إيران في هذا التحالف، هل سيكون ذلك خطوة لتشكيل تلك الدولة "السُّنية"، أم أنه سيسعي في الأساس لتحقيق الهدف المشترك بهزيمة "داعش" مع البدء في تسوية تسمح بالعودة للوضع السابق لدولتين ربما لم يعد لهما وجود على الأرض؟
يتحدث البعض هنا بوضوح عن احتمالات مواجهة إقليمية سُنية - شيعية، ليس من خلال وكلاء كما يحدث الآن، ولكن بالدخول في صدام مباشر مع إيران وحلفائها، دون إغفال الدور الإسرائيلي والتركي في هذه الحالة. وهنا لا يمكن تجاهل دور روسيا التي خلقت تحالفات موازية شبه رسمية مع إيران وحكومة بغداد بالإضافة إلى نظام بشار الأسد. هذه المخاوف لا شك تضغط على موسكو وواشنطن للإسراع بالتوصل إلى تسوية. وقد لوحظ أن التركيز في الهجمات الجوية الروسية حتي الآن لم يكن ضد "داعش" ولكن ضد عناصر المعارضة شمال سوريا، بما يوضح أن الهدف كان في الأساس الحفاظ على نظام بشار الأسد، كما تُبدي موسكو تمسكًا غير منطقي باستمرار الأسد كشخص. ورغم وجود إشارات إلى إمكانية تخليها عن هذا الشرط مستقبلا، فإنه في كل الأحوال وبعد أعوام من الصراعات في الدولتين، ونزف دماء كثيرة على أساس طائفي، فإن كثيرًا من العناصر السُّنية التي تحظي بمساندات إقليمية، ربما لا ترغب في العودة إلى الوضع السابق لتصبح تحت سيطرة حكومتي بغداد ودمشق.
على الجانب الآخر لا تبدو واشنطن قد حسمت أمرها بشأن الصورة النهائية لتشكيل المنطقة، وهي المشكلة الدائمة مع إدارة أوباما، الذي يعاني في تصوري من العقدة "الهاملتية" التي تجعله يُمضي وقتًا طويلا في بحث القضايا الرمادية بما يخلق انطباعًا بتراجع الدور القيادي الأمريكي ويترك فراغًا يحاول الآخرون أن يشغلوه.
فكريًّا وسياسيًّا، لا أعتقد أن أوباما يميل إلى هذا التقسيم الطائفي للمنطقة، فهو يتعارض مع كل ما يؤمن به على المستوى الشخصي منذ بدأ ممارسة العمل السياسي. لكنه أيضًا يواجه واقعًا جيوبوليتيكيًّا على الأرض، وقد سبق لنائبه جوزيف بايدن أن كتب مقالا عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ، يدعو للنظام الفيدرالي لتقسيم العراق لأنه الحل العملي -كما قال- لمواجهة الانقسامات بين السُّنِّة والشيعة والأكراد. في الوقت نفسه نرى تركيزًا على هذا الحل "السُّنِّي" للمشكلة في سوريا والعراق لدى عدد من مراكز الأبحاث اليمينية في واشنطن خصوصا معهد "إنتربرايز" الذي يضم المحافظين الجدد. كما إنني أسمع كلاما كثيرا هذه الأيام عن التعاون مع الدول السُّنية في المنطقة من بعض المرشحين الجمهوريين للرئاسة مثل ماركو روبيو الذي يعبر عن المؤسسة الرسمية للحزب الجمهوري. واعتقادي أنه أيًّا كان الفائز بترشيح الحزب الجمهوري، فإن سياسة واشنطن ستتجه نحو هذا الحل في حالة وصوله إلى البيت الأبيض. لكن كما يبدو الوضع الآن فإنه لا يُحتمل الانتظار لأكثر من عام، وهناك بالفعل جهود حثيثة لوزير الخارجية جون كيري كان آخرها زيارة موسكو والاتفاق على بدء الاجتماعات الهامة في نيويورك، الجمعة، مع محاولة التوصل لتفاهمات مع الدول الإقليمية -بما فيها السعودية وإيران بشكل أساسي- للوصول إلى تسوية سياسية. وقد حققت تلك الجهود تقدما ملحوظا في ترسيم الملامح الأولي لخارطة طريق من أجل التسوية، لكنها يعيبها الافتقار إلى الرؤية المتوافَق عليها للوضع النهائي في الدولتين بما يجعل أي نجاح فيها "تكتيكيًّا" أكثر منه استراتيجيًّا، ومعرضًا للانهيار إذا ما تعارض مع الصورة النهائية التي يتم الآن التخطيط لها أو العمل على تنفيذها من قبل الأطراف المتصارعة إقليميا ودوليا.
إذن ما المخرج في ظل تلك التشابكات المعقدة التي تجعل الحلول المطروحة -سواء بفرض العودة للوضع السابق للدولتين، أو تقسيمهما بإقامة دولة سُنية بينهما- حافلة بالمخاطر؟ لقد ركزت في المقالات السابقة على توضيح بعض هذه المخاطر، لكن لا بد من تقديم البديل، وهذا ما سأتناوله في مقالي القادم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة