مع تراجع أهمية إقامة الدولة الفلسطينية، فإنه يتم الترويج لدولة أخرى "سنية" تضم شمال شرق سوريا ومعها شمال غرب العراق.
في الأيام الماضية عبّر كل من هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وكذلك المفاوض السابق في عملية السلام آرون ميلر عن شكوكهما في جدوي إقامة دولة فلسطينية الآن، مع انهيار الأنظمة العربية، وتصاعد الفوضى وازدياد قوة داعش والتأثير الإيراني على الشيعة.
لكن مع تراجع أهمية إقامة الدولة الفلسطينية، فإنه يتم الترويج لدولة أخرى "سنية" تضم شمال شرق سوريا ومعها شمال غرب العراق، وهي المنطقة التي تخضع الآن لما يعرف بـ"الدولة الإسلامية" أو داعش.
هذا الحديث كان يتم تداوله في بعض المراكز الفكرية بواشنطن، لكنه أصبح في الصدارة مع مقال نشرته مؤخرا صحيفة نيويورك تايمز لجون بولتون سفير أمريكا الأسبق في الأمم المتحدة، المعروف بأنه من أشد الصقور في حكومة جورج بوش، حتى إنه عندما تعيينه مساعدا لوزير الخارجية لشئون نزع التسلح، قال لي مسئول أمريكي إنه لا يمكن لكولين باول ووزير الخارجية في ذلك الوقت أن يقبل بهذا التعيين ما لم يكن تم الضغط عليه بشدة خاصة من قبل نائب الرئيس ديك تشيني. وقد كانت مواقف بولتون متطرفة بشأن قضايا المنطقة حتى في ظل إدارة بوش التي يؤخذ عليها التهور في سياستها متمثلا في غزو العراق. ولو ترك الأمر لبولتون ومجموعة المحافظين الجدد التي ينتمي إليها لما توقفت القوات الأمريكية عند حدود العراق. فقد كانوا يقولون: الرجال يذهبون إلى العراق، بينما يذهب الرجال بحق إلى إيران.
غير أن كلام بولتون هذه المرة من الممكن أن يحظى بقبول لدى العديد من دول الشرق الأوسط. فبالنسبة لإسرائيل لن تعود هناك سوريا وبالتالي ربما يتم حسم النزاع بشأن الجولان، كما أنه ينهي قدرة إيران على التواصل مع القوى التابعة لها خاصة النظام "العلوي" الذي ستتم محاصرته على الساحل الغربي لسوريا وكذلك حزب الله.
وبالنسبة لبعض دول الإقليم فإنه سيتم قطع ما يسمى بـ"الهلال الشيعي" الذي تحدث عنه بعض قادة المنطقة. وقد سبق وسألت عنه وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبو الغيط في حضور المسئول الأمريكي السابق مارتن إنديك، فأبدى أبو الغيط عدم تفهمه لهذا المصطلح، فقام إنديك بتوضيح أنه يمتد من إيران للعراق (بأغلبيته الشيعية) ثم سوريا ولبنان. لكن أبو الغيط عاد وأبدى عدم اقتناعه بالفكرة أو بما تمثله وهو ربما لا يمثل أولوية مصرية حتى هذه اللحظة. لكن ذلك الحوار حدث قبل ثورات الربيع العربي، وما لم يكن وزير الخارجية المصري معترفا به في ذلك الوقت، ربما يفرض نفسه الآن كواقع جيوبوليتيكي لا يمكن أن نخفي رؤوسنا في الرمال ونتجاهل ما يعنيه بالنسبة لمستقبل المنطقة. فما يدور الآن سيترك آثاره لعقود وربما لقرون قادمة، لأنه يعيد رسم حدودها بعيدا عما تم التوافق عليه بعد الحرب العالمية الأولى على أنقاض الدولة العثمانية.
وقد تم توجيه الكثير من الانتقادات لتلك الخريطة بأنها تجاهلت التركيبة العرقية والمذهبية للسكان في تلك المناطق وتم رسم حدودها بما يتفق مع مصالح كل من فرنسا وبريطانيا في ذلك الوقت، فوجدنا المناطق الكردية وقد تم تقسيمها بين تركيا وسوريا والعراق وإيران. كما تمت إقامة العراق وسوريا ولبنان بتركيبات سكانية معقدة. وبالتالي فالمنطق الذي يردده بولتون ومؤيدوه ويحظى ببعض القبول في المنطقة هو: دعونا نعيد ترتيب الأوراق ورسم الحدود، اعترافا بالواقع الجديد الذي فرضته داعش، وهو ما يعني سلخ منطقة العشائر السنية العراقية عن حكومة بغداد، ومعها شمال شرق سوريا عن السلطة في دمشق وإقامة تلك الدولة السنية. المبرر الذي يقدمه بولتون هو أن السنة في الدولتين لن يوافقوا على محاربة داعش من أجل العودة لسيطرة الشيعة في بغداد أو العلويين في سوريا، وأن الحافز الوحيد الذي يمكن أن يشجعهم على مقاتلة داعش هو الوعد بدولتهم "السنية" الجديدة. ثم يقرّ بأن تلك الدولة لن تكون ديمقراطية في المستقبل المنظور مقللا من أهمية ذلك، وأنها ستكون تكرارا للنماذج المكررة للحكم العسكري العلماني في دول المنطقة. الطريف هنا أن بولتون وجماعته عند دعوتهم القوية لغزو العراق كانوا يبررونها بضرورة محاربة الديكتاتورية في المنطقة وأن إسقاط صدام حسين سيكون بداية لنشر الديمقراطية التي قالوا إنها الوسيلة الوحيدة لمنع انتشار الإرهاب أو وصوله إلى أمريكا كما حدث في هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
السؤال الآن: ماذا يعني كل ذلك لتركيبة ومستقبل المنطقة؟ وكيف يمكن أن يتم في ظل صراعات إقليمية واضحة، وتدخلات دولية بخطط متناقضة وهو ما نراه في التحالفات المتباينة لروسيا وأمريكا، التي هي في الظاهر لمحاربة داعش، لكنها أيضا تعكس رؤية استراتيجية مختلفة لكل منهما.
بولتون يؤكد أن سوريا والعراق قد انتهيا، وأن عودتهما تتعارض مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية وكذلك الدول الصديقة في المنطقة. هنا ينبغي أن يتم قياس تلك المصالح بشكل عملي تماما وأن يتم ذلك بحسابات باردة، حتى لا نجد أنفسنا نتعاون في "سايكس بيكو" جديدة نكتشف بعدها أنها لم تكن تخدم مصالحنا، وهذا هو ما نتناوله في مقال الغد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة