جلست على بضع حقائب تفترش الأرض وبقربها ابنها الصغير يحمل هو الآخر شنطته التى تبدو على وشك أن تتمزق من كثرة العتق وكثرة ما حشى فيها.
جلست على بضع حقائب تفترش الأرض وبقربها ابنها الصغير يحمل هو الآخر شنطته التى تبدو على وشك أن تتمزق من كثرة العتق وكثرة ما حشى فيها.. نزلت دموعها غزيرة، هذه أرضى.. هذا بيتى.. هذه شمسى وهذا الهواء لى هو هوائى.. «وين بنروح».. عادت للبكاء بل للنحيب وعجزت كل محاولات التخفيف عنها.. وكيف يتم التخفيف عن امرأة تترك بيتها وذكرياتها بل كل حياتها وترحل إلى المجهول... جلست وكأنها على سفح غيمة لا تعرف إلى أين تدفع بها الرياح.
***
أم أحمد كما أحب أن أناديها حتى لا تصبح هى الأخرى مجرد رقم فى احصائية طويلة للنساء والرجال والأطفال العرب الذين رحلوا وهجروا ولفظتهم القوارب والبحار أو استقبلتهم المطارات والعواصم أحيانا بكثير من التخوف وفى أحيان أخرى، كما حصل فى كندا أخيرا، بشديد الترحيب الذى رغم كل الحفاوة لا يعادل دفء الوطن والأرض الحبلة بالحب والعطاء.
تستوقفك شنطة أم أحمد كما شنط أخرى وتبدأ فى التساؤل كم من حياتها أو حياتهم تخزن هذه الشنطة؟ أو كيف تستطيع أن تختزل حياة أو حيوات فى شنطة أو حقيبة السفر؟؟ يا ترى هل وقفت أم أحمد طويلا تنظر حولها فى بيت هو مخزن للذكريات تفكر مليا ما الذى ستحمله معها إلى جانب مفتاح البيت الذى هى كما الفلسطينية وكل الفلسطينيين حملوا مفتاح بيوتهم ليقولوا للعالم إنهم عائدون إلى منازلهم يوما.. عائدون حتما... كثرت الهجرات العربية والترحال من مدينة إلى أخرى أو حتى إلى خارج الوطن بحثا عن مساحة من الأمن والأمان أو ربما خوفا أو ربما؟؟!! تعددت الأسباب والمنفى واحد.
***
حقيبة السفر هنا ليست كما هو حال الحقائب فى المطارات الواسعة المزينة بالأسواق الحرة العامرة بكل ما لذ وطاب، بل هى هنا كل الحياة أو بعضها.. هى هنا مستودع المحبة ورائحة هواء الوطن وشمسه وحره وبرده ومحبة أهله وذكريات منقوشة بكثير من الفرح المطعم بالحزن.. كلها تختزلها تلك الحقيبة.. لا غرابة إذن أن يضم المتحف الوطنى للعرب الأمريكان فى مدينة ديربورن فى ولاية متشيجان عرض لحقيبة السفر لأوائل المهاجرين إلى تلك المدينة.. كل ما فى المتحف الصغير كان يحكى قصص العرب الأوائل الذين هاجروا يومها بحثا عن لقمة العيش وبعض من الكرامة ربما؟؟!!. تلك المدينة المكتظة بمصانع السيارات وفرص العمل التى هى نفسها ربما ما دفعهم للهجرة.. كانت تلك الشنطة لمهاجر يمنى ربما من أوائل المهاجرين تبدو ليست كأى حقيبة أخرى فمنذ الوهلة الأولى تستوقفك وكأنها مخزن للحكايات الكثيرة منذ اللحظة الأولى التى خرج فيها ذاك اليمنى المهاجر الشاب على ظهر السفينة حتى تناقلته الأمواج بين الموانئ والمراسى ومن بحر إلى محيط إلى مدينة لا يعرف عنها ومنها أى شىء.. تلك كانت الحقيبة الأولى ربما ولكنها ليست كما الحقائب الآن وليست كحقيبة أم أحمد وغيرها من نساء وأطفال وشباب وشيوخ فلم تعد الهجرة خيار بل أصبحت فى الكثير من الأحيان أمر واقع تفرضه العديد من الظروف وتنوعات الحياة فى الأحياء والمدن العربية.
لم تعد الحقيبة هى تلك التى تحدث عنها محمود درويش بكثير من الغصة عندما اغتصبت الأرض بما عليها من ماء وشجر، بل أصبحت الحقيبة اليوم شأنا عربيا مرادفا لما يحدث من دمار فى تلك الأزقة والشوارع والبيوت المتهالكة.. عندما سقط الجدار الأول انتقلت أم أحمد كما غيرها إلى زاوية من المنزل بقيت صامدة وعندما سقطت كل الجدران رحلت هى كما غيرها إلى مكان آخر، وانتشر النزوح فى البدء كان فى المنطقة وليس بعيدا ولكن ومع الوقت أصبح هو السمة العامة للجميع وضاقت فسحة الخيارات المتاحة ومعها ضاقت فسحة الأمل.
***
عادت أم أحمد لنحيبها وهى تنهض لحمل حقيبتها وكثير من الذكريات وترحل إلى المجهول.. ربما ؟؟!!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة