بالفيديو.. نجيب محفوظ في حوار نادر: الفلسفة تمنح العزاء العقلي
يعود هذا الفيديو النادر إلى 27 عامًا حينما استضافت الجمعية الفلسفية المصرية نجيب محفوظ عقب حصوله على جائزة نوبل 1988
من أندر التسجيلات المصورة لأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ (1911 - 2006) تسجيل نادر مجهول، قام فيه نجيب محفوظ بزيارة قسمه القديم الذي تخرج فيه (قسم الفلسفة) بجامعة القاهرة بدعوة من الجمعية المصرية الفلسفية وبحضور نخبة من كبار مثقفينا وأعلام الأدب والفلسفة في مصر، وهذا الفيديو النادر لم يتم تداوله ولا مشاهدته على نطاق واسع، إلا قبل أشهر قليلة، حينما رفعته الأستاذة رشا ماهر البدري على الشبكة العنكبوتية.
تعود قصة هذا الفيديو النادر إلى 27 عامًا خلت تقريبًا، حينما استضافت الجمعية الفلسفية المصرية الأديب الكبير عقب حصوله على جائزة نوبل 1988 (على الأرجح كان هذا اللقاء في عام 1989)، وجرت وقائع هذه الجلسة المشهودة بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة، وبحضور عدد كبير من أعلام الفلسفة والأدب والنقد في مصر آنذاك:
الدكتور محمد عبد الهادي أبوريدة، زميل دفعة نجيب محفوظ سنة 1934، وأستاذ الفلسفة المرموق والمترجم القدير، وصاحب المؤلفات الفلسفية الرصينة. الدكتور أبو الوفا التفتازاني، أستاذ الفلسفة والتصوف وعلم الكلام بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية. الكاتب والناقد الراحل محمود أمين العالم. الدكتور محمود حمدي زقزوق، أستاذ الفسفة والتصوف والعقيدة الإسلامية بجامعة الأزهر (وزير الأوقاف الأسبق). الدكتور عبد المحسن طه بدر، الناقد الراحل، أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. الدكتورة أميرة حلمي مطر، أستاذة الفلسفة وعلم الجمال. الدكتورة فريال غزول الناقدة الكبير والأستاذة بالجامعة الأمريكية.
ومن الأصغر سنًّا (آنذاك) ظهرت الدكتورة يمنى طريف الخولي أستاذة فلسفة العلوم والبحث، والدكتورة وفاء إبراهيم أستاذة علم الجمال (المعيدة آنذاك)، والدكتور محمد عثمان الخشت (كان معيدا في ذلك الوقت)، والمرحوم الدكتور علي مبروك أستاذ الفلسفة وعلم الكلام بجامعة القاهرة، وغير هؤلاء كثير. وكان يدير اللقاء أستاذ الفلسفة المعروف، الدكتور حسن حنفي صاحب المؤلفات الغزيرة، وكان سكرتير الجمعية الفلسفية أيضًا.
التسجيل مدته حوالي ساعة وربع (ساعة وثلاث عشرة دقيقة بالضبط)، وهو قديم للغاية، رديء الصورة (كان تسجيل الفيديو في ذلك الوقت شيء يثير الانبهار) وتخللته تقطيعات عديدة (مونتاج إجباري) تشير إلى فقد دقائق كثيرة لم تصلنا ولا نعلم عنها شيئًا.
تحدث نجيب محفوظ في هذا الحوار كما لم يتحدث من قبل، كان متدفقًا وحيويًا وممتلئًا بالحنين والامتنان لبعض زملائه من قسم الفلسفة ممن كانوا على قيد الحياة، وكذلك للقسم الذي شهد تخرجه ونبوغه، ربما كان هذا الحوار كما علق عليه بعض النقاد "أفضل تسجيل رأيته لنجيب محفوظ على الإطلاق، يتكلم على راحته ويتحدث باستفاضة وبحكمة"، وهو وصف دقيق ومعبر تمامًا عن أداء نجيب محفوظ، خلال الحوار مع أساتذة وطلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
في هذا الحوار، تحدث محفوظ عن النظرة الفلسفية أو الرؤية الفلسفية التي تبطن أعماله، وأرجعها إلى تلك النظرة الشمولية والتفسير الفلسفي الموحد للبشرية جمعاء، ووضع تاريخ الإنسانية كلها في بوتقة واحدة، ولهذا فإن فهمها على حقيقتها وإدراك رموزها في سياقها الفني والجمالي يتطلبان من القارئ حسًّا ووعيًّا وثقافة.
يقول محفوظ: "ظننت أني سأدخل للفلسفة لأتخرج بعد 4 سنوات أعرف: المصير، وحقيقة الوجود مثل "الطبيب" (يقهقه نجيب محفوظ بصوت عالٍ) ربما لم نخرج بهذا، لكن الفلسفة علمتنا أشياء كثيرة في سبيلنا، واللهِ. علمتنا كيف لا نتسرع بالحكم، ونتأمل الأشياء. وكيف نتسامح للدرجة التي لا تُخلّ، بأن لكل شيء أكثر من وجه، وكل موقف له خلفياته.. وكان الواحد في أشد الأزمات، البعيدة عن الفلسفة، فتعطي له قدرًا كبيرًا من العزاء العقلي؛ لأنه هناك عزاء عقلي مثل العزاء الروحي، وأعتقد أن هذه الصفات الجليلة التي فيها أمكنت الإنسان وهو يقص الحواديت للناس، أن يُطعِّم الحواديت بشيء أكثر من مجرد الحدوتة والتسلية".
بكامل الحيوية والتركيز والانطلاق تحدث محفوظ عن كتابته وشخصياته وعن أولاد حارتنا، يستمع بكل تركيز، ويجيب بكل وضوح، يستفيض أحيانًا ويشرح أحيانًا (ونادرًا ما كان يفعل)، يستطرد في ذكريات له قديمة مع أصدقاء قسم الفلسفة، وعلى رأسهم محمد عبد الهادي أبوريدة، الذي روى بدوره جانبًا من ذكرياته وسيرته التي جمعته بنجيب محفوظ في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي.
ربما كانت المرة الأولى التي يعلق فيها محفوظ تعليقًا كاشفًا حول روايته "أولاد حارتنا"، وعن الأزمة التي أثارها البعض حولها، وتجدد الهجوم عليه بسببها بعد حصوله على نوبل بعد أن أشاع البعض أنه حصل عليها بسبب هذه الرواية!
سأله أحد الحضور إذا كان ما فهمه منها/عنها صحيحًا؟ فسكت محفوظ قليلًا، ثم تحدث وربما للمرة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع قائلًا: حينما كتبتها بعد فترة توقف طويلة لم يكن واضحًا في ذهني أن أعبر عن الدين أو دوره بكذا أو العلم وأثره بكذا.. كل ما هناك أن بضعة أفكار كانت في ذهني، فجرى القلم بكتابتها كما ظهرت في "أولاد حارتنا"، ولم أعد إلى الرواية أو النظر فيها بشكل نقدي إلا مؤخرًا (عقب حصوله على نوبل في أكتوبر 1988، والحملة الشرسة التي تم شنها ضده، والزعم بأنه حصل على الجائزة بسبب أولاد حارتنا.. إلخ).
ويتابع محفوظ، إن الرؤية التي حكمته بالأساس في كتابته لأولاد حارتنا تتعلق بالسلطة ومواجهتها، الفتوات الذين كانوا يمثلون السلطة ويستخدمونها ضد الحارة، وأن هناك من القيم التي يجب أن تسند العلم، فكان هدف أبناء الجبلاوي أن يعيدوا إحياء هذه القيم كي تسند العلم، قالها محفوظ نصًا وصراحة ووضوحًا: "الرواية لا فيها حملة على الدين ولا سخرية من الأنبياء ولا زراية بهم كما زعم الزاعمون"، وأرجع محفوظ ما سماه سوء التفاهم بين الرواية وبين بعض الشيوخ إلى "أزمة قراءة، وكيف تقرأ الرواية.. الحكاية أزمة قراءة والله.. لا أكثر ولا أقل".
ويقول (يتابع) محفوظ: "يصح أن الرواية كانت تثير مشكلات سياسية، وهي أثارته فعلًا بدرجة، لكن لما وجد أن هناك حاجة أقوى يمكن أن تهدمها سكت عنها من كان يمكن أن تثيره سياسيًّا، أولاد حارتنا كما كانت تخاطب على مستوى ما البشر فإنها تخاطب أيضًا رجال الحكم بلا شك، في ذلك الوقت 1959، كان هناك نشوة بانتصارات ما، فجاء واحد يقول لهم "الوقف" أهه، "الحارة" أهي، "الفتوات" أهم، وهذا المعنى فيما أعتقد لم يفت على السلطة الموجودة آنذاك؛ لأنه تم التلميح لي به، وإلا لماذا سيأتي أحد ليسألني ماذا تقصد بالفتوات؟ الفتوات هم الفتوات، السؤال هنا له مغزى، لكن لما وجد رجال السلطة أن الرواية أثارت أمرًا آخر بعيدًا عن اللي سألوا عنه سكتوا"..
aXA6IDE4LjIxOC4yNDUuMTc5IA== جزيرة ام اند امز