يطيب لكثيرين أن يروا في نجاحات سياسة بوتين وروسيا في المنطقة العربية ومحيطها تعبيراً
يطيب لكثيرين أن يروا في نجاحات سياسة بوتين وروسيا في المنطقة العربية ومحيطها تعبيراً - مجرد تعبير - عن إخفاقات سياسة أوباما والبيت الأبيض في الحفاظ للولايات المتحدة على دورها المركزي في منطقة لها فيها نفوذ. هذه قراءة رديئة للوحة المتغيرات الجارية في إقليمنا، والتحولات الكبرى العاصفة بالعالم وتوازناته الموروثة عن حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، إنها قراءة لا تلحظ إلا ما جرى أمس لا ما يجري اليوم، وهي، قطعاً، لا تنتبه إلى أن نظام القطبية الأوحدية - الذي نشأ في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط المعسكر «الاشتراكي» - اضمحل وآل إلى زوال، منذ عقد ويزيد، وتولد من زواله قيام تعددية قطبية اقتصادية وعسكرية تتحول، اليوم، إلى قطبية سياسية تعددية. وهي لم تنتبه لذلك لأنها لا تقرأ التاريخ وقوانينه، وفي جملة قوانينه قانون التوازن، الذي يتولد من علاقات التدافع والصراع. إنها، في أفضل أحوال الظن بها، قراءة داروينية سياسية للنظام الدولي غير صالحة لفهم تعقيداته!
من النافل القول، ابتداء، إن تصوير نجاحات بوتين في هجومه السياسي المعاكس، بوصفها ترجمة لإخفاقات أوباما في سياساته العربية و«الشرق أوسطية»، احتقار مزدوج لبوتين و أوباما في الوقت عينه ! فهو يضمر القول إن بوتين- وروسيا- أضعف من أن يكون لهما سياسة فعالة في «الشرق الأوسط» يعضدها حلفاء وأصدقاء يعترضون على سياسة أمريكا. وهو يضمر القول، إن أمريكا ضعيفة، فقط، برئيسها الحالي وإن ضعف أوباما هو ما أنتج قوة بوتين، وإنه ما إن يزول أوباما حتى تستعيد السياسة الأمريكية عافيتها، وتنكفئ قوة الدفع التي صنعت للسياسة الروسية عنفوانها. وبمعزل عن أن هذه الافتراضات تزور الحقائق الموضوعية- ومنها أن بوتين أقوى رئيس في روسيا منذ بريجنيف، وأن أوباما أقوى رئيس في الولايات المتحدة منذ أيزنهاور- فإن حديث هؤلاء في قوة أمريكا وضعفها رتب عليهم، في الماضي القريب، رهانات خاسرة بل مكلفة وشديدة الكلفة، و- الأهم من ذلك والأخطر- أنه سيرتب عليهما، في مستقبل قريب، رهانات لا تقل تكاليفها عن تكاليف سابقاتها.
الذين يعتقدون أن بوتين أضعف من أن يتحول إلى لاعب سياسي كبير في المنطقة والعالم، ينافس الدور الأمريكي، ويفرض عليه تراجعات اضطرارية هنا وهناك، ما زالوا يخالون روسيا بوتين هي روسيا غورباتشوف أو روسيا يلتسين، أي تلك الروسيا التي تداعت وسقطت في الأوحال، وأهانها الغرب وأذلها، كبير إذلال، مستفيداً من بؤس قيادتها السياسية وفساد تلك القيادة في عهد من دمر كيانها السوفييتي (غورباتشوف)، وفي عهد من كاد أن يدمر البقية الباقية من اتحادها الفيدرالي الروسي (يلتسين). لم يعرفوا أن بوتين أتى إلى السلطة من تجربة طويلة في «الكي جي بي» - أقوى جهاز في الدولة - مدعوماً من الجيش الأحمر، الذي أهانه يلتسين، محمولاً على أصوات أكبر وأضخم كتلة ناخبة في روسيا، منذ نهاية عهدها السوفييتي في العام 1991. وإلى ذلك لا يعرفون أن بوتين أتى إلى الكرملين بمشروع إصلاحي كبير لإعادة بناء دولة كبرى ذات تاريخ عريق في البناء الحضاري منذ عهودها القيصرية، من المدخلين الاقتصادي والعسكري، وأن المشروع الإصلاحي ذاك أثمر نتائجه في أقل من ثماني سنوات أمكن معها لروسيا أن تستعيد عافيتها، بدءاً من محيطها الجيو - سياسي المباشر، وإلى أماكن أخرى كان لها فيها نفوذ. ولقد يصح أن يقال، هنا، إن عصر المحافظين الجدد في أمريكا، عصر الحروب الظالمة (أفغانستان، العراق) والاستنزاف العسكري، والأزمة المالية الخانقة، أتى نعمةً على روسيا ومشروع بوتين لإعادة البناء.
هؤلاء أنفسهم يعتقدون أن باراك أوباما ضعيف، بل أضعف من فلاديمير بوتين. ولعمري إن نظرتهم إلى ضعفه قاصرة، فهم لا يعلمون، على التحقيق، أن أوباما هو من أنقذ الولايات المتحدة من نهاية دراماتيكية كانت ذاهبةً إليها، بعيون مفتوحة، في العام 2008 جراء السياسات الخرقاء التي سار فيها جورج بوش الابن وفريق عمله من المحافظين الجدد. ولقد أعاد أوباما بلاده إلى حيث تقف على قدميها، بعد كبوة قاتلة، بإعادته بناء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار المالي، وإنقاذ قطاعات العقار والتأمين والبنوك من الإفلاس، وإعادته الثقة الدولية بالدولار كعملة مرجعية. إن رجلاً يفعل ذلك، لا يمكن أن يكون ضعيفاً إلا في وعي جهول ! أما إن كان القصد من وصفه بالضعف أنه تردد في ضرب سوريا عسكرياً، وترك المعارضات المسلحة فيها تحت رحمة موازين قوىً لا تصب في مصلحتها، ولم يسقط البرنامج النووي الإيراني بالحرب، بل بصفقة سياسية، فإن عدم التدخل العسكري ذاك، وعدم التورط في حروب جديدة، إنما هما جزء من سياساته منذ حملته الانتخابية للرئاسة.
الأخطر من الحديث عن ضعف أوباما الرهان على رئيس قوي قادم، الأرجح على السيدة كلينتون لا على دونالد ترامب. بمعزل عما إذا كانت سياسات كلينتون (أو ترامب) الخارجية - والعربية خاصة - ستخرج عن الأطر العامة التي رسمها لأمريكا عهد باراك أوباما (وكلينتون من فريق عمله)، أو ستعود بتلك السياسات إلى ما كانت عليه حالها من تهور وجنون، ومغامرات عسكرية خرقاء، في عهد بوش والمحافظين الجدد، فإن المزاج الأمريكي العام لم يعد ميالاً إلى حروب تحصد أرواح أمريكيين وتلحق الأضرار باقتصاد أمريكا ومستوى المعيشة، بعد تجربة مرة تجرعها الأمريكيون من حربي العراق وأفغانستان. وإلى ذلك كله، انتهى العهد الذي كانت تستطيع فيه الولايات المتحدة أن تسرح وتمرح في العالم كله، حرة طليقة لا تكبحها قيود، وأتى عليها زمن جديد بدأت تحسب فيه حساب غيرها من الكبار في النظام الدولي، مثل روسيا والصين، بل وتلقى الصعاب حتى في استصدار قرارات في مجلس الأمن الدولي، بعد أن كان هيئة ملحقة بخارجيتها قبل سنوات عشر.
عم، إذن، يراهنون؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة