إنى أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسى ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب
يوم الجمعة الحادى عشر من ديسمبر. هذا ما قالته النتيجة الموضوعة على مكتبى كى تذكرنى بحركة الزمن الذى يمضى بنا، ويباعد ما بيننا وأحبائنا الذين لم يتبق منهم سوى الذكرى التى تنبهنا إليها أوراق النتيجة. ولكن اليوم الحادى عشر من ديسمبر يشير إلى ميلاد نجيب محفوظ، ذلك العبقرى الذى اختطف جائزة نوبل برواياته العديدة التى ظل يكتبها فى دأب وزهد، غير عابئ بشيء إلا أن يكتب ما يراه وما يؤمن به، غير عامد جذب انتباه أحد، أو مداهنة سلطة، أو تملق قائد أو زعيم، فكانت الكتابة عنده موقفا بكل معنى الكلمة وأبعادها وتعددها فى الوقت نفسه. كانت موقفا يبدأ من النفس ولا ينتهى عند آفاق الوجود. يبدأ من النفس من حيث الرغبة الصادقة التى تنبع من أعمق أعماق الذات فى أن تكون حضورا خلاقا بفعل الكتابة، وللكتابة وبالكتابة، حضورا هو فعل الكينونة الذى لا يكون إلا بالكتابة، والإخلاص لها دون غيرها، اختيارا ليس بعده اختيار، فأن تكتب هو أن توجد، وأن توجد ليس حضورا سلبيا وإنما حضور فاعل وخلاق، هو فعل متعد بالمعنى النحوى الذى يجاوز الفعل إلى ما هو غيره، فيكون موقفا من الذات وبالذات إزاء النفس التى تنطوى عليها بوصفها فاعلا للكتابة، توقع فعلها على ذاتها أولا ثم تتعداها إلى غيرها حيث الواقع الذى يستثير الفعل ويتطلبه مشترطا الاكتمال به والمزيد من الحضور، جاعلا من الكتابة مرآة للواقع، لا بالمعنى السلبى الذى تذهب به الكتابة بددا، وإنما بالمعنى الإيجابى الذى يوقف الواقع أمام حضوره المستقل ليرى ما ينقصه وما ينحرف إليه وما يشوهه وما يختزل حضوره وما ينتقص من أفعال فاعليه، فلا يتقدم هذا الواقع نحو غايته التى تحقق له كماله أو شوقه إلى المثل العليا إلا بما ينطوى عليه دافع الكتابة.
وهذا ما يقوله أحمد عاكف فى نهاية الثلاثية:
“إنى أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسى ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسى ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية” لكن هذه الثورة الأبدية ليست هى موقف إزاء الواقع المخصوص (الوطن) فحسب، وإنما هى موقف إزاء الإنسانية (العالم) كلها. فالثورة الأبدية هى موقف الكاتب، ومن ثم القارئ، إزاء كل ما يحدث فى العالم الذى ينتسب إليه كلاهما. وما الواقع المخصوص الذى يعيشان فيه إلا بعض نسيج هذا الوجود الذى تحكمه المثل العليا نفسها تلك التى تفرض الثورة الأبدية للكائن لكى يرتقى بالإنسانية التى ينتمى إليها من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية التى هى انعتاق من كل ما يحول بين الإنسان وما يتطلع إليه من مثل عليا.
والتقنية الأدبية أو القانون الأدبى الذى يحكم ذلك هو وحدة الخاص والعام أو تحقق العام من خلال الخاص.
وهذا معناه أن الكاتب لابد أن يغوص عميقا فى الخاص أو المحلى حتى يعثر فى قرارة القرار منه على العرق الإنسانى الذى يحيل الخاص إلى عام أو المحلى إلى إنساني، وذلك كما يحدث فى الحرافيش، حيث يختزل التاريخ الإنسانى فى حارة، هى الإنسانية فى آخر الأمر. ولكنها الإنسانية التى آفتها النسيان، فى مسعاها الدائم والمتكرر إلى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، بعيدا عن ظلم فتوات الحارة الذين لا يكفون عن الحضور الدائم الذى هو الضرورة التى لابد من الثورة الأبدية عليها، إلى أن يحدث التوازن السحرى بين النقائض فتتحقق الحرية والعدالة والكرامة، ويعيش كل خلق الله فى عالم يصنعونه على أعينهم، ويكون هذا العالم فى حالة صنع دائم فهذا هو معنى آخر من معانى الثورة الأبدية.
ولكن الكتابة التى هى موقف من النفس ومن الواقع ومن العالم هى نفسها موقف من الوجود، فنحن أبناء وأحفاد الجبلاوى نمضى فى عوالم هذا الوجود، باحثين عن معنى لحياتنا، عن مغزى لوجودنا، عن أصل العلة والغاية. ولكن تنغلق مفاتيح الكون علينا وأمامنا، ونهيم فى طريق كأنه حكاية بلا بداية ولا نهاية، كأننا صابر سيد الرحيمى الذى يبحث عن أبيه كى يمنحه الأمن والكرامة والسلام ومعنى الحضور، ونمضى مثقلين بأحمال تعوقنا عن الوصول السريع أو المباشر إلى كل ما يمنح للكون معنى ومغزي.
وذلك هو الموقف الذى ينطوى على أبعاد معرفية وأنطولوﭽية تدنو من التصوف الذى هو بعد أساسى فى عالم نجيب محفوظ وكتابته على السواء. ولقد قامت هالة فؤاد بقراءة صوفية متميزة لرواية “الطريق” من هذا المنظور، ففتحت الباب للقراءات الصوفية لأبطال نجيب محفوظ الذين يبحثون عن لحظات الكشف والتجلى الذى لا يفارق الرمزية التى تتجاوب دائما والرؤى الحدسية التى يتعانق فيها حضور الرمز والوجد الصوفي. وهنا تتسع الرؤيا لتضيق العبارة التى تعالج ضيقها بالمجاز الذى يتسع ليغدو رواية أو قصة قصيرة بأكملها.
ولا تتوازن الكتابة الرمزية مع الكتابة العبثية من هذا المنظور. فالكتابة الرمزية أحوال ومواجد صوفية تبسط حضورها على العديد من الروايات والقصص القصيرة. أما الكتابة العبثية فتظهر فى التعبير عن الشعور بغياب المعنى المنطقى فى الحضور الاجتماعى السياسى بعد هزيمة يونيو 1967، حيث تتداخل الأشياء، وتختلط الأوضاع بلا معنى مفهوم كما فى قصص من قبيل “تحت المظلة” أو “خمارة القط الأسود”، حيث يكون حضور اللا معنى لازمة من لوازم الاحتجاج السياسى على الهزيمة التى كانت غير مفهومة ولا معقولة عند الذين اكتووا بنارها المشؤومة.
والحديث عن الكتابة الرمزية أو الصوفية أو حتى العبثية فى دنيا نجيب محفوظ التى هى معادل إبداعى لما أسماه “دنيا الله” يقود إلى فعل الكتابة نفسه، من حيث هو لغة، تصل ما بين الثالوث: الكاتب والقارئ والعالم، حيث نرى موقفا آخر يتكشف به سر من أسرار الكون الكتابى لنجيب محفوظ. وإذا نظرنا إلى هذه الكتابة دياكرونيا على سبيل التعاقب بدأنا بالتاريخ، فى مدى الروايات التاريخية التى كانت تأكيدا للهوية الوطنية للكاتب الذى كان فى الثامنة من عمره عندما اندلعت ثورة 1919 التى كتب عنها فى ثلاثيته الخالدة التى كانت فتحا فى عالم الكتابة الواقعية التى لم يفارقها نجيب محفوظ إلا إلى الكتابة الرمزية التى افتتحها بأولاد حارتنا التى كانت بداية كتابة متنوعة، تجاورت فيها أشكال كتابية جديدة. وحتى عندما حاول أعداء السماحة الدينية اغتياله بسبب “أولاد حارتنا” بعد حصوله على نوبل سنة 1988، عاود الكتابة التى لا تفارق كثافة الرمز وإيجازه فى “أحلام فترة النقاهة” التى هى منبع لا يفنى لتعدد التفسيرات.
ويعنى ذلك أن نجيب محفوظ له مواقف إزاء فعل الكتابة التى تعددت أساليبها وتنوعت آفاقها. ولذلك تعددت تفسيراتها وستظل تتعدد إلى ما شاء الله، فهى كتابة حمالة أوجه تؤدى إلى تفعيل دور القارئ بما يجعل منه مضمرا للكتابة التى تتلون بتعدد دلالاتها اللانهائية.
ويتجلى ذلك من منظور المرونة وأشكال التحول التى مرت بها كتابة نجيب محفوظ فى علاقتها بالقارئ الذى فرضت عليه أن يكون مضمرا فى كل أحوالها ومراحلها، فقد وضعت هذه الكتابة القارئ فى اعتبارها دون أن يفارقها هذا الاعتبار قط. ولذلك حدثنا نجيب محفوظ عن أنه بدأ يكتب بطريقة واقعية القرن التاسع عشر فى الوقت الذى كان العالم يقرأ فيه كتابة بروست وكافكا وﭽيمس ﭽويس. يعنى أنه اختار الواقعية النقدية ليتواصل مع قارئه العربي، وظل يفعل ذلك إلى أن شعر أن هذا القارئ نضج مع نصوصه بما يكفي، فدخل به عالما روائيا أكثر حداثة، فى انتقال وصفه يحيى حقى بأنه انتقال من الاستاتيكية إلى الديناميكية، أو من الواقعية إلى ما بعدها وما هو نقيضها فى مدى الحداثة التى لا ضفاف لها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة