في أحشاء الضفة اليوم، والتي تشمل القدس الشرقية، أكثر من ستمئة حقيقة استيطانية، موزَّعة بين مدن كبيرة وكيبوتسات ومراكز وبؤر
قد يصح توصيف الغضبة الجماهيرية المتفاعلة، في الضفة الفلسطينية المحتلة بعامة وفي القدس وضواحيها بخاصة، بالعفوية أو بالتلقائية أو بافتقاد التخطيط والإعداد والجاهزية المسبقة. لكن هذه التوصيفات ونظائرها لا تصح ولا صدقية لها إذا تعلَّقت المقاربات بتحري أهداف الغضبة والمستهدفين الأساسيين بها، وهم الاستيطان الصهيوني والمستوطنون الصهاينة. الغاضبون يقصدون بالضبط ما يفعلون في هذا الإطار. منذ العام 1967 وإلى لحظتنا هذه، ربما لم تعرف بقعة على وجه البسيطة تغييرات في طبيعتها الجغرافية والبيئية والسكانية العمرانية، كما هي الحال مع الضفة. قارن بين خريطتين تفصيليتين للضفة، إحداهما قبيل غزوها إسرائيلي والأخرى حديثة طازجة، لتتأكد من ذلك. إذا مددَت خطوط المقارنة وقراءة المعطيات والبيانات إلى مديات بعيدة، فقد تتيقن، مثلما أيقن الغاضبون بفطرتهم الوطنية غير القابلة للضلال والتضليل، من أن «دولة المستوطنين الصهاينة في الضفة»، ليس مفهوماً افتراضياً تماماً، ولا يساق فقط لمجرد السخرية المريرة أو المبالغة والتضخيم واستدرار الاهتمام.
في أحشاء الضفة اليوم، والتي تشمل القدس الشرقية، أكثر من ستمئة حقيقة استيطانية، موزَّعة بين مدن كبيرة وكيبوتسات ومراكز وبؤر متوسطة ومنمنمة ونقاط عسكرية يعيش فيها أكثر من ستمئة ألف من الإسرائيليين المسلحين، مقابل نحو 3.5 مليون من أصحاب البلاد الأصليين العزل. وهناك المئات من حواجز التفتيش والتوقيف، التي تتعرض للفلسطينيين في تنقلاتهم وتنغص عليهم حياتهم وتستهلك أعصابهم وأوقاتهم وكراماتهم وأحياناً دماءهم وأرواحهم، بكرة وعشية وأصيلاً في غدوهم ورواحهم. ويتلوى في هذه المساحة التي قوامها نحو 5.6 ألف كيلومتر مربع، جدار الاستيطان والفصل العنصري اللعين المعزز بأبراج للمراقبة المسلحة وأطنان من الأسلاك الشائكة الذي استقطع للإسرائيليين آلافاً من الدونمات، وفصل بين الفلسطينيين ومزارعهم ومدارسهم وأحراشهم ومجالهم الحياتي الحيوي، وأحال في بعض جهاته الحقل الواحد إلى حقلين والبيت إلى بيتين.
في الضفة اليوم، تجمعُ استيطاني ينحو عموماً إلى التوسع وحشر الفلسطينيين في معازل، مع تخصيص جهد استثنائي لاقتناص نصف الحرم القدسي الشريف زمانياً ومكانياً كحدٍ أدنى. وذلك في إطار محفزات تشجيعية قوية من الأطر الإسرائيلية الحاكمة كافة، وكذا في ظل تسهيلات وإغراءات بلا حدود: أراض واسعة متميزة المواقع، شقق سكنية وعقارات بأسعار زهيدة، قروض وهبات مالية، إعفاءات ضريبية؛ أولوية في مشروعات التطوير والخدمات الصناعية والزراعية والتجارية وفي مجالات البنية التحتية لا يحظى بها سكان تل أبيب والقدس الغربية.
يجري هذا كله في ظل شبكة حماية وأمان توفرها المؤسسة العسكرية. وفي غضون الغضبة الشعبية الفلسطينية العارمة، تعزَّزت هذه الشبكة، حتى أعادت إلى الأذهان بعض مشاهد الانتفاضة الثانية، التي ساقتنا إلى التندر عليها حينها بالقول إن إسرائيل تعمل وفق سياسة «دبابة لكل مستوطن».
على رغم كل هذه المزايا، يعتقد المستوطنون أنهم متفضلون على إسرائيل الدولة وليس العكس. كيف لا وهم يشكلون بزعمهم حراس فكرتها وقوامها الأيديولوجي، ويسهرون على قيمتيها الأساسيتين: التوسع الجغرافي والاستيلاء الزاحف على الأرض، والتضييق على السكان الأصليين حتى الاستسلام أو الرحيل. التصور السائد لدى المستوطنين أنهم يمثلون البقية الباقية من اليهود الصالحين الذين ما زالوا معتصمين بالأهداف التي نشأ لأجلها المشروع الصهيوني ودولته.
في سياق هذا التصور المغرور يذهب قادة المستوطنين وزعماؤهم إلى حد اعتبار الدولة ومؤسساتها، ولا سيما العسكرية والشرطية منها، مجرد خدم لهم ولأتباعهم. جاء في أحد التقارير ذات الصلة: «إن فتاة صغيرة من مستوطني كريات أربع بجوار الخليل، كان بوسعها في إحدى المناسبات أن تأمر الحاكم العسكري للمنطقة وضباط الإدارة المدنية باحتجاز مواطنين فلسطينيين وإهانتهم، بزعم أنهم حاولوا التعدي عليها». مثل هذا المشهد تكرر بين يدي الغضبة الراهنة وبحيثية أكثر إجراماً وفاشية. فالضباط والجنود والمستوطنون، أصبحوا يستمرون بقتل الفلسطينيين بدمٍ بارد، بذريعة أنهم تعرضوا لمحاولات طعن!
الدراسات التفصيلية ترمي غالبية المستوطنين بالنفعية والانتهازية والاسترزاق، وتتهكم على ادعائهم الطهرية الدينية والريادية الدنيوية، وتقطع بأن المهووسين منهم بالمنظورات الصهيونية حول أرض الميعاد لا تزيد على الثلاثين في المئة. لكن المناخ السياسي العام في السياقات الإسرائيلية الإقليمية والدولية أغواهم بالتحرك الطليق.
المدهش أن هذا التحرك يبلغ أحياناً طور التمرد على الدولة الإسرائيلية ذاتها، حتى إن بعض مسؤوليها راحوا يحذرون من تحول المستوطنين إلى دولة داخل الدولة. لكن الأكثر مدعاة للدهشة أن نخب الحكم والسياسة في إسرائيل تبدو عموماً سعيدة بهذا الوضع ومتساوقة معه. ونحسب أن هذا التساوق هو أبرز كلمات السر في فشل عملية التسوية واندلاع الغضبة الفلسطينية المبهرة.
الشاهد أنه لا سبيل إلى إحياء هذه العملية جدياً وانتشال الحقوق الفلسطينية من حبائل التسويف، قبل كسر شوكة الاستيطان والمستوطنين. وهذا هو عينُ ما يفعله الغاضبون الآن وينبغي مساعدتهم عليه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة