وبالنسبة الى تشارلز ديكنز،من الواضح أن الفقراء لا يتطابقون مع البروليتاريين، لأن هؤلاء ليست لهم، في مطلق الأحوال، نقاوة البائسين
كان الزمن زمن الثورة الصناعية بامتياز، وكان في بريطانيا على وجه الخصوص، زمن الفوارق الطبقية التي راحت تظهر أكثر وأكثر. وإضافة الى هذا، وبسببه أيضاً، كان الزمن زمن الانتفاضات العمالية والشعبية. وكانت انتفاضة العام 1844 في فرنسا، كما في عدد من البلدان الأوروبية الأخرى، وإن في شكل أقل حدة، ألهبت عقول المفكرين والكتّاب ووجداناتهم، من أمثال دزرائيلي الانكليزي وجورج صاند وفيكتور هوغو ولوي بلان الفرنسيين وحتى واشنطن إرفنغ الأميركي الذي كثيراً ما تجوّل في أوروبا وشهد بأم عينيه اندفاعات ثوارها. ولئن كان كل واحد من هؤلاء قد عبّر، في مجاله المهني وعلى طريقته، عن تلك الحماسة الليبرالية العامة التي استشرت، فإن في إمكاننا أن نقول ان تشارلز ديكنز، الكاتب الانكليزي الكبير كان من بين الجميع، الأكثر قدرة على التعبير عن الحماسة، حتى وإن كانت كتاباته وستظل، من النوع المشاكس الذي يعجز عن توسم الحلول لدى أي من الإيديولوجيات القائمة فيكتفي بأن يرسم الأحداث مستخلصاً دروسها من دون أن يزعم، ظاهرياً على الأقل، أن من شأنه أن يقدم أية حلول. ذلك أن ديكنز لم يعش الفقر والصراعات الطبقية نظرياً، عبر التأمل والقراءة و»معرفة» أصحاب العلاقة، بل عاشها بنفسه ميدانياً، هو الذي كان منذ طفولته يعاني غرق أهله في الديون ووصول أبيه الى السجن أحياناً بسبب تلك الديون. ومن هنا فإن الواقع الحاد - والسوداوي في نهاية الأمر - الذي عبّر عنه ديكنز في روايته «أوقات صعبة»، أتى نابعاً من معاناته الشخصية، بل حتى يمكننا أن نقول في هذا الصدد أن ديكنز قد استعان بحكايات ومواقف تنتمي الى حياته الخاصة، ولا سيما الى مرحلة الطفولة في تلك الحياة، في عدد لا بأس به من أعماله ولسوف تأتي الأزمان لتعطيه صدقيته، بعدما رماه أهل زمنه بتهمة «الإفراط في التشاؤم».
> تشارلز ديكنز كتب «أوقات صعبة» عام 1854، أي بعد سنوات قليلة من اندلاع «حرائق» الانتفاضات العمالية عام 1848. وفي زمن كانت تلك «الحرائق» تحرك مخيلات زملائه الكتّاب والمفكرين وتجعلهم شديدي التفاؤل بالمستقبل الزاهر. هو كان أكثر صواباً منهم: صوّر الواقع كما يراه، أو بالأحرى كما الحال في معظم الأحيان، كما عاشه حقاً. وقال ان ذلك كله لا يمكن أن يفضي الى أي حل. شخّص ما يحدث وقرر أن الحماسة للنزعة «الشارتية» ذات السمات الاشتراكية الانسانية، لن تفضي الى شيء أيضا. ومن هنا حملت روايته هذه، نفس السوداوية التي وسمت معظم ما كان كتب وما سيكتب لاحقاً حول البؤس والبؤساء. بل انه في «واقعيته» الكأداء مهّد الطريق لسوداويات أخرى عادت واستشرت ولا سيما في الأدب الفرنسي الاجتماعي (هوغو، زولا... الخ).
> تدور أحداث رواية «أوقات صعبة» في مدينة كوكتاون، حيث تزدهر الصناعة الناشئة وتحدث في طريقها ومن خلال تأثيراتها على أحوال الناس والعمال خاصة، تبديلاً في الذهنيات يتزامن مع ذاك الذي يحدث في الأحوال الاقتصادية للناس. ومنذ البداية يصوّر لنا الكاتب تصويراً يكاد يكون فوتوغرافياً جديراً، على سبيل المثال بعمل لإميل زولا، كيف ان الصناعة المزدهرة هنا تستأثر بكل ما في المدينة: بمياهها، بسمائها، بالنساء والرجال، وبشتى الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقتان الصاعدتان بفضل الصناعة: البورجوازية والبروليتاريا. وإذا كان ديكنز رمز الى البروليتاريا بشخصية العامل بلاكبول (الذي سنعود اليه بعد قليل)، فإنه رمز الى البورجوازية عبر شخصيتين أساسيتين، كل منهما رب عائلة ويمثل قطاعاً من البورجوازية يختلف عن الآخر: فهناك من ناحية مدير المدرسة غراد غريند، الذي كان - لفرط ما لديه من نزعة مادية - يرى أن تربية الصغار يتعين أن تساير «الوقائع» وتكون خاضعة لها. وهو، تشديداً على نزعته هذه، يربي أطفاله أنفسهم تربية شديدة المادية و»النفعية» وائدا لديهم كل قدرة على الإبداع والتخيل، وكل حساسية وكل نزعة مثالية. وفي مقابل هذا الشخص الذي سرعان ما سوف يتبين لنا أنه موجود هنا في الرواية منذ بداياتها بوصفه ابن طبقة طفيلية تعتقد أنها تجسد البورجوازية، لكنها بالأحرى خادمة لها، لا جزء حقيقي منها، هناك السيد باوندرباي، رجل الأعمال والمصرفي، صديق مدير المدرسة. وهو، هنا بورجوازي حقيقي يعيش حياته وأفكاره في خط واحد لا يتطور، ذلك ان وصوليته البينة وانتهازيته الواضحة - وهما يعبران عن ترسخه الطبقي على عكس ما هو حادث بالنسبة الى غراد غريند، غير الراسخ طبقياً -، يمنعانه من أي تفاعل انساني مع الواقع المعاش. والجزء الأساس من الرواية يتتبع مسار حياة الشخصيتين «البورجوازيتين» - معاً ومنفردتين وكذلك في علاقة كل منهما مع أولاده - فإذا كان مدير المدرسة يكتشف ذات يوم أن تربيته لأولاده قد أدت الى كارثة وانه قد عاش حياته وأفكاره وهو يؤله مبدأ الربح في نزعة وضعية وربما ذرائعية أيضاً، لا علاقة لها بأية مشاعر انسانية أو أخلاقيات أو قدرة حقيقة على الوصول الى السعادة، فإن صاحب المصرف، صديقه، لا يكتشف شيئاً لأنه آلة حقيقية لمراكمة الأموال. واللافت هنا انه من بين أولاد غراد غريند وغيرهم من الأولاد، وحدهن الفتيات الأصغر ينفذن بجلدهن من ذلك الجمود المادي، ذلك انهن يقعن تحت تأثير المهرجة سيسي، التي كان غراد غريند لا يكف عن اضطهادها منذ بداية الرواية. ولأن سيسي فقيرة، كان من المنطقي أن تحظى بحب تشارلز ديكنز، لأن الفقراء، في رأيه «يعرفون عادة كيف يحافظون على أفئدتهم صافية نقية»، ما يجعلهم ويجعل شجاعتهم الأمل الوحيد المتبقي لخلاص هذا النوع من المجتمعات.
> وبالنسبة الى تشارلز ديكنز، من الواضح أن الفقراء لا يتطابقون تماماً مع البروليتاريين، لأن هؤلاء ليست لهم، في مطلق الأحوال، نقاوة البائسين. وهنا، في هذا الاطار، نصل الى شخصية البروليتاري بلاكبول، الذي يقع ذات مرة ضحية لمؤامرة يحيكها ضده ابن سيده صاحب العمل، ومرة ثانية ضحية لسذاجة رفاقه في العمل في مصنع الحياكة. وإذا كان بلاكبول يمثل هنا شرف الطبقة العاملة ونزاهتها، فإن رفاقه لا يماثلونه استقامة، ما يكشف عن ازدواجية المعايير في نظرة ديكنز الى هذه الفئة من أبناء المجتمع: فهو، بعد كل شيء، كان يرى أن الطبقة العاملة موزعة بين سذاجتها وبين طيبتها وبين خضوعها الى الديماغوجيين الذين يقودونها.
> طبعاً نعرف أن هذه النظرة الى البروليتاريا كانت تعتبر، في ذلك الحين، هرطقة في نظر الليبراليين وغيرهم من أصحاب النزعة الاجتماعية المادية والاشتراكية، لكن ديكنز لم يأبه لهذا: كتب ووصف ما كان يعايشه، فهل علينا أن نذكر بأن الأزمان التالية أتت لتعطيه الحق على حساب كل الذين استصغروا، في هذا المجال، شأنه وشأن أفكار ووسموه دائماً بالكاتب «البؤسوي»؟
> على أية حال لا بد هنا من طرح سؤال أساس: بعد هذا الوصف، هل يحق لنا اعتبار «أوقات صعبة» رواية، أم انها وكما يقترح بعض المؤرخين ونقاد الأدب، أقرب «الى أن تكون نصاً أنتجه صحافي طليعي ذو قناعات ليبرالية انسانية»؟ مهما كان من شأن الجواب، فإن هذا العمل يبقى من بين أقوى ما كتب في ذلك الزمن، وكذلك من أجمل أعمال تشارلز ديكنز.
> وتشارلز ديكنز الذي ولد عام 1812 ومات عام 1870، هو، بالطبع، واحد من أبرز الكتّاب الروائيين الإنكليز في زمنه، ولد لأسرة كانت انهارت اقتصادياً، وخاض منذ طفولته العمل في المصانع كما عرف الفاقة وهي تجارب عبّر عنها في بعض أهم رواياته مثل: «آمال كبيرة» و «دايفيد كوبرفيلد» و «أوليفر تويست»... وهي أبرز رواياته الاجتماعية. وهو كتب أيضا أعمالاً هزلية (أبرزها تحفته الإنسانية الإجتماعية الساخرة «أوراق مستر بكويك») ومقالات اجتماعية وسياسية وزار بلداناً كثيرة كفرنسا وسويسرا، وخصوصاً الولايات المتحدة التي استقبلته استقبال الفاتحين، لكن حين غادرها لم يفته إعلان خيبة أمله ازاء «ديموقراطيتها».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة