إن ما يبعث على القلق خلال هذه الأشهر هو تواتر حالات الاعتداء على الحريات الفردية وقد كانت فئة الشباب من أغلب الفئات المستهدفة.
سنوات مرت على الثورة التونسية بحلوها ومرها... بتناقضاتها وصدماتها... بعجائبها وغرائبها... بلحظات الخيبة والانكسار والإحباط والأمل والاعتزاز والفخر.... واليوم، ونحن نحتفل بالذكرى الخامسة على اندلاع الثورة ماذا بقى فى مخيلة التونسيين؟ وكيف يقيمون المسار الانتقالى؟ وما هو موقفهم من الحكومات التى تعاقبت ومن الطبقة السياسية والنخب المثقفة؟
إن أهم ما تحقق فى نظر أغلب التونسيين هو حرية التعبير وأسوأ ما برز هو استشراء الإرهاب. ولكن ما هو وضع الحريات الفردية وقد مثلت مطلبا من مطالب التونسيين الذين عاشوا تحت رقابة الجهاز الأمنى طيلة عقود؟
إن ما يبعث على القلق والخوف خلال هذه الأشهر هو تواتر حالات انتهاك الحقوق والاعتداء على الحريات الفردية وقد كانت فئة الشباب من أغلب الفئات المستهدفة. فهل بدأت الثورة تأكل أبناءها؟ وهل صارت حملات «شرطة الأخلاق العامة» شبيهة بهيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ وهل نحن فى دولة تسير بجناحين: مدنى ــ دينى وفق الائتلاف الندائى ــ النهضوى؟
حملات «حماية الآداب العامة» وتطهير البلاد من العصاة و«الشواذ» والمنحرفين متواصلة وما يثير الانتباه فى طريقة التعامل مع الشبان هو العنف الممارس: عنف مادى يمارسه بعض الأمنيين كضرب ناشطة وإجبارها على خلع ملابسها فى مدينة الكاف (الشمال التونسي) وعنف التأويل كتشديد القاضى العقوبة على مثليين (3 سنوات سجن والتغريب 5 سنوات عن مدينة القيروان) وهى عقوبة، وإن استندت إلى نص قانونى قديم ظل مغمورا لا يطبق طيلة عقود طوال، إلا أنها تجد سندا فى المنظومة الفقهية القديمة التى تحكم على الزانى البكر بالتغريب وتمكن القاضى من حق التعزير. ويضاف إلى كل ذلك إلقاء القبض على شابين أمام المعهد بدعوى السير فى الطريق العام وهما ممسكان بأيدى بعضهما البعض وهو ما اعتبر مخلا بالآداب العامة، وإلقاء القبض على عدد من الشبان الذين يشتبه فى تعاطيهم لصنف من المخدرات (الزطلة)...
***
تشير هذه الأحداث وغيرها إلى مجموعة من الإشكاليات:
ــ ما يتصل بالتناقض بين المواد الضامنة للحريات فى الدستور الجديد والقوانين القديمة التى ظلت متعارضة مع الدستور.
ــ وجود فجوة بين النصوص التشريعية والتحولات التى يشهدها المجتمع التونسى على مستوى البنى الذهنية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ــ غياب النقاش المعمق والرصين حول ملف الحريات إذ ظل تناول الإعلام لمثل هذا الموضوع، فى الغالب، سطحيا باحثا عن الإثارة على حساب تفكيك مختلف أبعاد ممارسة الحريات.
ــ وجود فجوة بين الإصلاحات والممارسات داخل وزارة الداخلية. فدورات تدريب عدد من الأمنيين بعد الثورة والتى ارتكزت بالأساس على احترام القانون، والالتزام بمنظومة حقوق الإنسان، وتحويل الأمن إلى أمن جمهورى لم تؤت أكلها إذ ظل أداء عدد من الأمنيين وفيا للمنظومة القديمة التى تقوم على تحويل الشرطة إلى جهاز قمع وبطش.
ــ وجود ثغرة على مستوى تكوين فئة من القضاة الذين بقيت تصوراتهم للحريات الفردية محافظة كما أن انتماء بعضهم إلى منظومة أيديولوجية أثر فى اجتهادهم القانونى ومن ثمة اتسعت الفجوة بين ما يطرحه الناشطون الحقوقيون من تحليلات ومناظير تنهل من الدراسات الحديثة، وما يذهب إليه عدد من القضاة من آراء. وهو ما يثبت أن معارف القضاة لم تخضع للتحيين. كما أن تآزر البعض مع زملائهم جعلهم يبحثون عن المبررات التى لا تقنع بدل الاعتراف بالأخطاء.
ــ لقد ترتب عن هذه الحملات حالة احتقان فى صفوف الشبان الذين اعتبروا أنفسهم ضحايا منظومة الاستبداد، والحسابات الحزبية والائتلاف بين النداء والنهضة، بل يذهب بعضهم إلى أن شعور عدد من الأمنيين بالسخط على الشباب المتشدد جعل حقنهم على جميع الشبان يزداد وكأنهم باللجوء إلى البطش يفرضون سلطتهم من جديد بعد أن حد منها السياق الثورى ويتموقعون من جديد.
ومهما يكن الأمر فإن ملف الحريات الفردية حفز عددا من الفاعلين (بيان المثقفين) على إطلاق صيحة الفزع فى ظل صمت السياسيين وخفوت أداء المجتمع المدنى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة