أن هذا الأسلوب فى مكافحة الفساد لا يحقق أى أثر حقيقى فى الحد من هذه الظاهرة القبيحة، ولنا فى تجربة السنوات السابقة خير مثال.
أقر مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضى (١٦ ديسمبر) عدة تعديلات على قانون الكسب غير المشروع رقم ٦٢ لسنة ١٩٧٥. ومع اهتمامى بموضوع مكافحة الفساد وتقديرى لما يترتب على إهماله من تبديد لموارد البلد وتعطيل لجهود التنمية، إلا أن هذا التعديل ليس موفقا ولن يؤدى إلى الحد من الفساد، والأفضل أن يتم العدول عنه والتعامل مع هذه القضية الخطيرة من منظور مختلف.
وقانون الكسب غير المشروع باختصار هو الذى يمنح الإدارة التى تحمل ذات الاسم بوزارة العدل سلطة التحقيق مع أى موظف فى الدولة بتهمة زيادة ثروته بشكل غير مبرر من منطلق «من أين لك هذا». فإن لم يثبت الشخص محل التحقيق مصدر هذه الثروة، جرى التحفظ على أمواله ومنعه من السفر وتقديمه للمحاكمة بتهمة الفساد. والتعديلات الجديدة ــ بحسب المنشور ــ توسع دائرة المخاطبين بالقانون، كما توسع من نطاق الجريمة، وتفتح باب التصالح مع المتهمين بشرط سداد ما حصلوا عليه من مال غير معلوم المصدر مضافا إليه الفائدة المصرفية.
ولكن بينما يبدو أن تعديل القانون يعطى الدولة وأجهزتها المزيد من الأدوات التى تمكنها من محاربة الفساد، فإن ما أخشاه أن يأتى ذلك بنتائج عكسية وذلك للأسباب الأتية.
أولا، أن تعديل هذا القانون يعنى استمرار الاعتماد على واحد من أشد النظم القانونية مخالفة للدستور وللعدالة. فالقانون يجعل المتهم مدانا ما لم تثبت براءته، ويسمح لأجهزة الدولة بأن تضع فى قفص الاتهام كل من تعتبرهم فاسدين دون دليل محدد، وتفرض عليهم تقديم مستندات وملفات تبرر كل زيادة فى أموالهم مهما كانت بسيطة أو مضت عليها سنوات طويلة. وهذا كله مخالف للمادة (٩٦) من الدستور التى تنص على أن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة»، كما أنه يخالف القاعدة الأساسية فى العدالة الجنائية بأن عبء إثبات الجريمة يقع على عاتق جهة التحقيق.
ثانيا، أن جهاز الكسب غير المشروع، برغم ما تسعى التعديلات الأخيرة لأن تضفيه عليه من صفة قضائية، إلا أنه سوف يظل جسما غريبا على القضاء العادى وقريبا من وزارة العدل وغير متمتع بمواصفات الاستقلال القضائى. واستمرار تمتعه بصلاحيات واسعة فى التحفظ على الأموال والمنع من السفر والإحالة للمحاكمة مخالفة دستورية ثانية. الأصل أن تكون النيابة العامة والقضاء العادى هما الجهتان الوحيدتان صاحبتا الاختصاص بالتحقيق واتخذ الإجراءات التحفظية وفرض العقوبات، وكل ما يخرج عن ذلك فهو قضاء استثنائى ومخالف لروح الدستور.
ثالثا، أن القانون ــ بحسب المنشور أيضا ــ سوف يعطى جهاز الكسب غير المشروع صلاحية جديدة ومطلقة فى التصالح مع المتهمين مقابل سداد ما حصلوا عليه من فسادهم مضافا إليه الفائدة المصرفية فقط. وهذا وضع شاذ للغاية لأن التصالح فى المواد الجنائية يجب أن يكون فى الحالات التى تحقق الصالح العام وليس حقا مطلقا متاحا لكل من يطلبه، وأن يكون متضمنا لغرامة أو عقوبة إضافية رادعة وليس مجرد الفائدة المصرفية، وأن يخضع لرقابة قضائية ولا يكون بمطلق إرادة الجهة التى قامت بتوجيه الاتهام لما ينطوى عليه ذلك من تعارض فى الأدوار والمصالح.
رابعا وأخيرا، أن هذا الأسلوب فى مكافحة الفساد لا يحقق أى أثر حقيقى فى الحد من هذه الظاهرة القبيحة، ولنا فى تجربة السنوات السابقة خير مثال. آلاف الملفات التى جرى التحقيق فيها وعشرات القضايا التى أحيلت إلى المحاكم انتهت إما بالبراءة من أول درجة أو بإلغاء أحكام الإدانة عند الطعن عليها لان المحاكم فى النهاية لم تجد أمامها سوى أقوال مرسلة وشكاوى كيدية وشائعات لا يساندها تحقيق جدى ولا مخالفات محددة. والنتيجة هى إهدار وقت وجهد أجهزة الدولة، وضياع سمعة المتهمين دون أدلة محددة، وإفلات مرتكبى الفساد الحقيقى من قبضة العدالة فى ظل هذه الحالة الضبابية، وإصابة الجهاز الإدارى للدولة بالشلل، وفتح باب التنكيل بالخصوم السياسيين على مصراعيه.
مكافحة الفساد والقضاء على ممارساته قضية بالغة الأهمية لمصر ولمستقبلها الاقتصادى. ولكن إصدار المزيد من القوانين التى تخالف الدستور والعدالة لن يحقق الهدف المنشود. المطلوب هو تعديل القوانين التى تسمح بتقنين الفساد وعلى رأسها تلك المتعلقة بالمناقصات الحكومية وتخصيص الأراضى ومنح التراخيص، والتطبيق الجدى لقوانين منع تعارض المصالح، وإتاحة المعلومات الاقتصادية والتجارية للمجتمع، وتمكين الهيئات النيابية والمجتمع المدنى والإعلام المستقل من القيام بواجبهم فى الرقابة والمتابعة، وتوفير الموارد والامكانات لرفع كفاءة وتدريب جهاز النيابة العامة والمحاكم المختصة فى الجرائم الاقتصادية المعقدة. أما الرجوع إلى منطق الاعتماد على قوانين ونظم استثنائية ومخالفة للدستور فلن يترتب عليه سوى منح الأجهزة الإدارية للدولة المزيد من السلطة المطلقة وهذا هو أوسع أبواب الفساد.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة