الكلمات في أغلبها تثير الملل، وفيها الكثير من العبارات الدبلوماسية المقصود بها تسجيل المواقف في مواثيق رسمية وليس شد انتباه المستمعين
كانت جلسة مجلس الأمن عن اليمن، حيث كنت أتابع كلمات المندوبين الدائمين للدول الأعضاء الخمس عشرة. الكلمات في أغلبها تثير الملل، وفيها الكثير من الحشو والعبارات الدبلوماسية المقصود بها تسجيل المواقف في مواثيق رسمية وليس شد انتباه المستمعين. تجربة السنين علمتني أن أنشغل في بعض الأمور خاصة مع الدول غير المؤثرة إلى أن يستوقفني "الكلام المفيد". هذا ما حدث منذ أيام مع ريموندا مورموكيتي سفيرة ليتوانيا لدى المنظمة الدولية. كان كلامها عن اليمن، لكنها ربما بدون أن تقصد، وضعت يدها على أصل المشكلة في العديد من دول المنطقة خاصة تلك التي لم تعُد دولاً إلا من حيث الاسم.
قالت مورموكيتي: "أن تتوقع حلا عسكريا أو استسلاما من الطرف الآخر، يعني أن تستغرق في الأوهام الخادعة. فأقصى ما يمكن لأي طرف أن يحققه هو أن يكسب الحرب ويخسر الوطن".
لا يهم إن كانت السيدة تتحدث عن اليمن أو عن غيرها، فالمهم أن العبارة "في عموميتها" استوقفتني وأفاقتني مما كنت أفعله. نحن اعتدنا على عبارة "يكسب معركة ويخسر الحرب" أو العكس، باعتبار أن الانتصار في الحرب هو الهدف. لكن الحقيقة أن الحرب في نهاية الأمر هي أداة للسياسة، والانتصار فيها قد يساعد على فرض أمر واقع مؤقتاً أو تحسين شروط التفاوض، لكنه في بعض الحالات قد لا يعني شيئا، بل إنه من الممكن أن يأتي بنتائج عكسية إن ترك وراءه آثاراً نفسية وسياسية مدمرة قد تستمر لأجيال قادمة وتترك ثارات وجروحاً عميقة تصعب مداواتها خاصة بين أبناء الشعب الواحد المفترض أن يعيشوا معا في مجتمع منسجم متوافق.
هذا الكلام لا ينطبق علي اليمن فقط، ولكن على كل الدول التي تعاني من حروب أهلية من ليبيا إلى سوريا والعراق. بل يمكن القول إنها تشمل أيضا الدول التي تعاني حروبا "باردة" داخل مجتمعاتها حتي لو لم تنطلق فيها رصاصة واحدة.
ربما كان هذا هو درس التجربة التونسية الذي أكد عليه فوز "الرباعية" بجائزة نوبل للسلام. فقد أدرك الفرقاء المختلفون أن أمامهم أحد طريقين: الأول هو طريق الصراع في معادلة صفرية يعتقد فيها كل طرف أن بإمكانه التخلص من الآخر وقهره سياسيا بما قد يؤدي عمليا إلى صراع مسلح يدمر البلاد ونسيجها المجتمعي دون أن يحقق لأي طرف ما يريده من سيطرة. وبالتالي اختاروا الطريق الثاني (طريق السلامة) حتى لو كان يعني تقديم كل طرف تنازلات لبقية الأطراف. فهذه هي الخسارة البسيطة في طريق التوافق التي تمثل في النهاية مكسبا للجميع. لكن التجربة التونسية تعكس أيضا نضجا أكبر ربما يكون اكتسب دروسه من تعثر تجارب أخرى في الدول المحيطة، كما أنه ولا شك تأثر بالدور الأكبر لمنظمات المجتمع المدني وقدرتها على التواصل مع كل أطرف الصراع للوصول إلى صيغ توفيقية. فهذه هي السياسة وهذا هو فن الحكم. فالرئيس الأمريكي والديمقراطيون في الكونجرس كثيرا ما يواجهون مشاكل في تنفيذ برامجهم وسياساتهم، لكنهم مضطرون في نهاية الأمر للوصول إلى حلول وتسويات مع الجمهوريين وهو ما يكون غالبا على حساب ما يريده كل طرف. هذه القاعدة تنطبق عليى أمريكا بنظامها الديمقراطي المعقد كما تنطبق على أي مجتمع بسيط، فالمهم هو وجود آلية لإدارة الخلافات، كما أن القدرة على تقديم التنازلات والقبول بالحلول الوسط هي الوسيلة للتوافق والحفاظ على كيان واستمرارية المجتمعات.
لكن من يتابع لغة الخطاب السياسي في دول "الربيع العربي" الأخرى، يتبين له أن أطراف الصراع لم تصل بعد إلى قناعة بما يعنيه الحل السياسي لها، ويتصور أن بإمكانها استئصال الأطراف المنافسة لها. المدهش أن استغراق الأطراف في ذلك الوهم لا يعكس الواقع على الأرض، حيث يستحيل حسم الأمر عسكريا لأي طرف، لكنه شعور كل منهم بأنه الضحية مع شيطنة الطرف الآخر بما يجعل من الصعب التعايش أو قبول تسوية.
الخروج من هذا المأزق يتطلب إدراك الجميع بأن الحسم العسكري ليس فقط غير ممكن، ولكن ـ وهذا هو الأهم ـ غير مطلوب، لأن التسوية القائمة على تغليب مصالح أي طرف على حساب الأطراف الأخرى لن يقدّر لها أن تعيش طويلا، بل ستكون إخفاء سطحيا لبعض الأعراض دون أن تعالج أصل المشكلة وتخلق مناخا توافقيا يسمح بالتعايش في ظل دولة حقيقية تضمن حقوق الجميع، بحيث يكون من مصلحتهم الإبقاء على كيان تلك الدولة وليس البحث عن وسيلة لهدمها والخروج من تحت عباءتها القاهرة.
ليس هذا أمرا جديدا، فكل تجارب التاريخ تؤكد هذه الحقيقة، لكننا في عالمنا العربي لا نستفيد من تجارب الآخرين أو حتى من تجاربنا، وبالتالي لا بد من بعض التذكرة فإنها تنفع المؤمنين، فليس من مصلحة أي طرف أن يكسب الحرب ويخسر الوطن، و..خذوا الحكمة من أفواه الليتوانيين!.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة