إعلان مغرض في «نيويورك تايمز»، يتهم جون كيري بمعاداة السامية، ولا يمكن إلا أن يكون مستوحى من مهارات جوزيف غوبلز في مجال العلاقات العامة
إعلان مغرض في صحيفة «نيويورك تايمز»، يتهم جون كيري بمعاداة السامية، ولا يمكن إلا أن يكون مستوحى من مهارات جوزيف غوبلز في مجال العلاقات العامة.
في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ظهر إعلان على صفحة كاملة من صحيفة «نيويورك تايمز»، اتُهِم فيه وزير الخارجية الأميركي جون كيري بمعاداة السامية. أما مَصدر الاتهام فهو الحاخام شمولي بوتيتش، الذي أطلق على نفسه لقباً بعيداً كل البعد عن التواضع هو «حاخام أميركا». ومن المعروف عن هذا الحاخام أنه يلبي الحاجات الروحية لعملاق الكازينوات شيلدون أديلسون، ممول المؤسسة التي يترأسها بوتيتش، والتي نُشر الإعلان باسمها. (وفي حين أن أملاك أديلسون كثيرة - وتشمل كازينوات، والحزب الجمهوري - إلا أنه لا يملك الولايات المتحدة – أقله حتى الآن. وبالتالي، قد تكون مزاعم بوتيتش بأنه حاخام أميركا سابقة لأوانها نسبياً).
إن مصدر الوحي المحتمل الوحيد لمضمون هذا الإعلان هو مهارات جوزيف غوبلز، مسؤول الدعاية في عهد هتلر، في مجال العلاقات العامة، وكان اللقب الرسمي لهذا الأخير هو وزير التنوير العام. أما التنوير الذي أتى به بوتيتش (وعلى الأرجح رئيسه أديلسون) في هذا الإعلان، فجاء على شكل افتراء يفيد بأن الوزير كيري «يحط من شأن حياة اليهود»، «ويبرر على ما يبدو ذرف دماء اليهود»، و»ينوي تقديم بلايين الدولارات لإيران، كي تواصل السعي لتحقيق هدفها، ألا وهو محو إسرائيل عن الخريطة».
يتناول هذا الكلام رجلاً معروفاً بدعمه المتواصل، والمستمر مدى الحياة، لإسرائيل والقضايا التقدمية والإنسانية التي تكتسب أهمية بنظر معظم اليهود الأميركيين. أما بوتيتش، فتتماشى ميوله أكثر بكثير مع ميول حكومات نتانياهو الأربع، التي نجحت في إرساء معنويات جديدة في إسرائيل، تقبل في مجلس الوزراء مسؤولين أمثال ايليت شاكيد لتتبوأ منصب وزيرة العدل (نعم، العدل على أقل تقدير!)، مع أنها تدافع عن قتل أمهات الفلسطينيين اللواتي «ينجبن أفاعٍ إرهابية صغيرة».
لقد أطلق بوتيتش اتهاماته المغرضة بحق الوزير كيري لأن هذا الأخير قال إن العنف الفلسطيني ناتج، ولو جزئياً، من الإحباط الذي أصاب الفلسطينيين إزاء التوسيع العشوائي والمتزايد للمستوطنات الإسرائيلية، وهو توسيع يهدد بتقويض الهدف الأساسي من اتفاقية أوسلو، ألا وهو التوصل إلى اتفاقية سلام تستند إلى حل دولتين. بيد أن بوتيتش يعتبر الأمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية، وهو يحاكي، بنظره، «الإرهاب الفلسطيني» والإجراءات الدفاعية الإسرائيلية. وقد أوردت صحيفة «هآرتس» والمنظمة الإسرائيلية غير الحكومية الرائدة «بتسيليم»، أن هذه الإجراءات باتت تشمل الآن إعداماً من دون أي محاكمة قضائية لفلسطينيين لم يشكلوا خطراً على أي كان.
واتهم بوتيتش كيري أيضاً بعكس «أصداء معادية للسامية مغرضة وخبيثة»، عندما قال إن المستوطنات قد تحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري. مع أن بوتيتش لم يذكر أن ما سبق من كلام يتناول خطراً سبق أن حذر منه معادون للسامية معروفون جداً أمثال ديفيد بن غوريون، وأرييل شارون، وإيهود باراك، وإيهود أولمرت، وشيمون بيريز، وجميعهم رؤساء وزراء إسرائيليون سابقون.
تُعتبَر المعادلة الأخلاقية التي تشير إلى أن الطرفين مخطئان بالطريقة ذاتها خاطئة فعلاً، ولكن فقط لأنه يستحيل إجراء أي معادلة أخلافية بين العنف الصادر عن محتل نافذ، وذاك الصادر عن ضحية خائرة القوى. وفي هذا السياق، سبق أن لفتت الصحافية أميرة هاس، وهي كاتبة عمود في «هآرتس»، إلى أن الفلسطينيين يقاتلون دفاعاً عن حياتهم وعن تواصل تواجدهم في وطن، في حين أن إسرائيل تقاتل في سبيل مواصلة احتلالها.
من غير المفاجئ أن يكون نتانياهو قد حاول استغلال عمليات الإعدام برعاية «داعش» في باريس لتبرير السلوك الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والقدس الشرقية. لكن لا مجال للمقارنة بين الوضع في فرنسا – فهي دولة لا تبقي العرب محتجزين خلف جدران فاصلة، وحواجز على الطرقات، ونقاط تفتيش مذلة – والوضع في إسرائيل.
ثمة نكتة قديمة عن أم يهودية ابنها مجند في جيش القيصر الروسي. ولحظة افتراقهما، أوصت ابنها بعدم إنهاك نفسه. وقالت له: «أطلق النار على تركي، ثم خذ قسطاً من الراحة. وأطلق النار على تركي آخر، وخذ قسطاً آخر من الراحة». وسألها الابن: «لكن يا أمي، ماذا لو أطلق التركي النار علي»؟ أجابت الأم في حيرة من أمرها: «ولماذا يطلق النار عليك؟ ماذا فعلت له»؟
ما يحصل هو أن الفلسطينيين، الذين داس الإسرائيليون على رقابهم طوال نصف قرن، قرروا الهجوم على محتليهم. ويقول الإسرائيليون إن مطلبهم الوحيد هو أن يُترَكوا على حالهم كي يواصلوا الدوس على رقاب الفلسطينيين. وكم من مرة أصر بنيامين نتانياهو أن أحداً لا يريد السلام بقدر ما يريده الإسرائيليون!
واصلت الحكومات الإسرائيلية المتتالية احتلالها للفلسطينيين طوال نصف قرن، عبر أعمال العنف المميتة التي شنها جيشها. وبالتالي، بأي حق تطالب إسرائيل الفلسطينيين بالتخلي عن كفاحهم العنيف لوضع حد للقمع الذي يتعرضون له؟ هل يُعتبر لجوء الفلسطينيين إلى العنف في سبيل نيل الحرية وامتلاك الحق بتقرير مصيرهم – وهو من «القواعد الآمرة» في القانون الدولي – أقل شرعية من لجوء إسرائيل إلى العنف لحرمانهم من حريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم؟
في الواقع، ما من طرف أصر على حق المقاومة العنيفة للاحتلال أكثر من المجموعات الإرهابية اليهودية في الحقبة السابقة لنشوء الدولة. وفي هذا الإطار، لا بد من التذكير بمنظمة «إرغون»، برئاسة مناحيم بيغن، التي مارست أعمالاً إرهابية بحق المحتلين البريطانيين في الحقبة السابقة لنشوء الدولة. وهنا، يمكن الكلام أيضاً عن إسحاق شامير، الذي انتُخِب رئيساً للحكومة في إسرائيل، والذي كان يترأس منظمة «شتيرن». وقد كتب في المجلة التابعة لمنظمته الإرهابية، «ليحي»، قائلاً: «لا الأخلاقيات اليهودية ولا التقاليد اليهودية قادرة على استبعاد الإرهاب كوسيلة قتال... فالإرهاب بنظرنا هو جزء من المعركة السياسية المستمرة في ظل الظروف الراهنة ولا شك في أن الدور الذي يؤديه كبير». وسبق لبني موريس أن وثق في كتابه، وعنوانه «ضحايا الحق»، أن الإرهاب اليهودي استهدف مدنيين عرباً.
يبرر بوتيتش كلامه قائلاً إنه لا يمكن القيام بمقارنة أخلاقية بين الضحايا وطغاتهم، ولكنه، شأنه شأن سيده، يؤمن بأن الفلسطينيين الذين عاشوا طوال نصف قرن في ظل الاحتلال الإسرائيلي هم الطغاة، وأن محتليهم الإسرائيليين هم الضحايا. وبصفتي شخصاً ولد في ألمانيا وعاش لمدة سنتين في ظل الاحتلال النازي، ونظام فيشي الذي حشد اليهود لترحيلهم إلى أوشفيتز، أؤكد لبوتيتش ولرئيس حكومة نتانياهو أن وجهة نظرهما كانت ستنال إعجاب جوزف غوبلز، الذي آمن فعلاً بأن الشعب الألماني هو ضحية اليهود.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة