إلى أي مدى تتحمل سياساتنا لعقود مسؤولية ما آلت إليه الأمور في ملف مياه النيل وأزمته المستحكمة مع إثيوبيا؟
إلى أي مدى تتحمل سياساتنا لعقود مسؤولية ما آلت إليه الأمور في ملف مياه النيل وأزمته المستحكمة مع إثيوبيا؟ وهل مازال لدينا ما نفعله للخروج من المأزق؟
لا شك في أن السبب الرئيس في الموقف الذى وصلت إليه مصر حاليا من أزمة مستحكمة مع إثيوبيا هو سعى الأخيرة بقوة إلى خلق واقع مهدد لمصر في الصميم. إلا أن الموضوعية تُلزمنا أن نبدأ بحساب النفس قبل أن نحاسب الآخرين.
على مدار أربعين عاما ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي اكتفت مصر الرسمية في تعاملها مع إفريقيا جنوب الصحراء بمقولة مفادها أن رصيدنا في قارتنا ضخم لا ينفذ لمجرد دعمنا في خمسينيات القرن وستينياته لحركات التحرر الإفريقية وهو حق، ولكنه حق تحول بمُضي الوقت إلى تاريخ، والتاريخ دائما ما يذكر في زمن ماض متناسين أننا لم نرفع رصيدنا ذلك في الحاضر، كما أننا لم نعط أي إشارات لرصيد في المستقبل.
صحيح أن الرعيل الأول من القادة الأفارقة حفظوا لمصر الجميل بإيوائها لهم سنوات النفي وتوفيرها الدعم السياسي والإعلامي. إلا أنه مع رحيلهم، تعاقبت أجيال جديدة سواء من قادة أو شعوب لم يخبروا الدور المصري التاريخي بشكل مباشر، وشيئا فشيئا بدا حتى التاريخ باهتا لا يحرك مشاعر ناهيك عن كونه لا يرعى مصالحا بشكل مطلق.
الغريب أن مصر وهي تسوق لنفسها لدي دول جنوب الصحراء اعتمدت على دورها التاريخي في دعم حركات التحرر الإفريقية، في حين أن أهم دولة بالنسبة لنا –وهي إثيوبيا- مشتهر عنها أنها لم ترزح تحت الاستعمار إلا سنوات معدودة فقط في بداية ثلاثينيات القرن الماضي. وحيث إن مصر تعاملت مع نفسها ومع الآخرين فيما يتعلق بإفريقيا وكأن تاريخها -للأسف- لم يبدأ سوى بثورة يوليو 1952 فقد تناست –حتى نسيت بالفعل– أصلا من أصولها الصلبة قبل أن تكون ناعمة فيما يتعلق بموقفها المضيء في تلك الفترة من دعم مطلق لإثيوبيا ضد استعمار الجهل والتخلف منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية عشرينيات القرن العشرين لكي تبدأ مرحلة أشد تألقا بدعم مطلق على كافة الأصعدة خلال العدوان الإيطالي عليها في بداية الثلاثينيات وطوال فترة الاحتلال التي لم تدم إلا لسنوات معدودة.
في الفترة بين عام 1999 إلى عام 2006 أسعدني الحظ بأن ترددت على إثيوبيا مرات خلال فترة عملي مراسلا لجريدة الأهرام العريقة في إفريقيا جنوب الصحراء. ولا شك في أن هذه السعادة سيستشعرها أي مصري بوجوده في تلك الدولة لما تتميز به من جمال من نوع خاص شعبا وأرضا؛ حضارة وقيما، وهو الشعب الذي يعد الأقرب لشعب مصر والسودان على كافة الأصعدة، بما في ذلك الملامح الجسدية.
إلا أنه بقدر سعادتي بوجودي في بلد لم أشعر فيه بالغربة الحضارية، ولا الإنسانية، بقدر الصدمة العنيفة التي أصابتني بسبب تلك الصور الذهنية شديدة السلبية التي لا علاقة لها بحقيقة مصر وخاصة فيما يتعلق بإثيوبيا. ففي العام 2004 حضرت جلسة نقاشية ضمت العديد من الصحفيين والمثقفين الإثيوبيين، حيث كانت الصدمة العنيفة بخروج ما في الصدور، ويا لهول ما تختزنه الصدور!
فوجئت باتهامات تتطاير من عينة اتهام مصر بالوقوف ضد المصالح الاقتصادية لإثيوبيا، ومن أن المصريين لديهم مشاعر فوقية تجاه الإثيوبيين لتعلق الأولين بميراث إمبريالي استعماري، واتهامات أخرى كثير الغالبية العظمى منها لا علاقة له بالواقع.
كنت المصري الوحيد في تلك الجلسة، وكنت أعرف حق المعرفة كم أن بالتاريخ الموثق حقائق هي عكس ما يكال لك ولوطنك تماما من اتهامات.
انتظرت حتى أكمل آخر المتحدثين قائمة اتهاماته التي لم تخرج عما تردد طوال الجلسة من آخرين. بعد أن انتهى الرجل من ادعاءاته، تحول الجمع لي منتظرين الرد الذي فاجأتهم به: "لقد استمعت واستوعبت وإني أقر بكل ما ورد على ألسنتكم من اتهامات".
وسط الترحيب والتهليل بوصفي أول مصري يعترف بالاتهامات الإثيوبية التقليدية لبلده وشعبه. استكملت حديثي الذي جاء أيضا مفاجئا لهم بما فيه من معلومات، لم تكن كل أجهزة الدولة المصرية المتراخية التي أسكرتها الشوفينية قد اهتمت أبدا بأن تكون تحت نظر المجتمع أو الإنتلجنسيا الإثيوبية. معلومات تنفي بل وتنسف كل ما قالوه من الأساس.
**
قلت لهم: نعم، يجب عليّ أن أعترف بأن بلادي –مصر– كانت دولة ذات طموحات استعمارية (!). ففي عام 1902 وانطلاقا من دوافعها الإمبريالية، استشعرت مصر بأنه لا يليق أخلاقيا ولا هو خليق بجوار آمن أن تظل دولة جوار مباشر –حيث إن حدود مصر في ذلك الوقت كانت مع إثيوبيا– أن تظل دولة الجوار المباشر ترزح تحت نير الفقر والجهل. في ذلك الوقت كانت إثيوبيا تجاهد تحت حكم مليكها ميلنك الخروج من العزلة المطلقة التي فرضها حكامها على مدار قرون.
كانت مصر تنظر بأسف إلى إثيوبيا وهي ترى القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا – فرنسا – إيطاليا – بلجيكا وغيرها من الدول الغربية) تنهب ثرواتها وتحتكر موادها الأولية بأبخس الأسعار تاركة البلاد تغرق في بحر من الفقر والجهل. ولذلك اهتدى تفكير مصر في ذلك الوقت –وهي الدولة الاستعمارية المزعومة حيث كنت ما زلت أوجه خطابي للإثيوبيين– إلى أن أول خطوة يمكن للقاهرة بها أن تأخذ بيد شقيقتها إثيوبيا هي أن تقيم لها البنية الأساسية لاقتصاد عصري يحررها من احتكارات القوى الاستعمارية الأوروبية ويرفع من أسعار مواردها المهدرة.
وقد كان أن أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني "ديكريتو" أي قرار بإنشاء بنك الحبشة Abyssinia Bank كفرع للبنك الأهلي المصري، وأن يكون مقر هذه المؤسسة المالية الأولى من نوعها في تاريخ إثيوبيا هو العاصمة أديس أبابا.
توقفت للحظات عن الكلام ناظرا في وجوه الحضور قبل أن أقول: "هكذا كان سلوك مصر التي تصفونها "بالاستعمارية"، نعم لقد ارتكبنا خطيئة في مصر ويجب أن تعاقب عليها بحرمانها من مياه النيل (!).
استأنفت قائلا: "ولكن لم يقف الأمر عند هذا السلوك الاستعماري كما تحبون أن تصفوننا، ولكن مصر من خلال بنك الحبشة الذي كان فرعا للبنك الأهلي المصري والذي جاءت ميزانيته من الحكومة المصرية حيث كان البنك الاهلي في ذلك الوقت هو البنك المركزي المصري. وقد قام بنك الحبشة الذي أقامته وأدارته مصر بإصدار أول عملة ورقية في البلاد كما سك أول عملة ومعدنية موحدة، كما قام بإنشاء بورصة للمواد الأولية الرئيسية التي تنتجها إثيوبيا وفي مقدمتها البن والفضة ومواد أخرى بما أدى لمضاعفة أسعارها وبالتالي مضاعفة الدخل القومي للبلاد، كما أقام العديد من المخازن التي بنيت بمواصفات عالمية مصرية ليس فقط في العاصمة ولكن في مختلف الأقاليم لتقليل الهالك من المواد الأولية، باختصار مصر هي التي أقامت أول اقتصاد إثيوبي عصري نقل البلاد من عصور الظلام إلى القرن العشرين دفعة واحدة".
كان من الطبيعي ألا يصدقني الحاضرون إلا بعد أن قمت بعرض الوثائق ذات الصِّلة ومن بينها القرار الخديوي بإنشاء بنك الحبشة في العام 1905، مذكرا المستمعين بما لم يسمعوه أبدا من قبل من أن الاجتماعات السنوية للجمعية العمومية لبنك الحبشة كانت تعقد في المقر الرئيسي للبنك الأهلي الذي مازال قائما في منطقة وسط البلد.
إلا أن أهم ما قام به البنك وبالتوازي مع سنوات نموه هو أن كان له نصيب الأسد في الدفع بأهم مشروع في تاريخ إثيوبيا ألا وهو أول سكك حديدية تربط بين الأطراف المترامية لهذا البلد الجبلي الصعب، لكي تكسر أديس أبابا ولأول مرة في تاريخها العزلة المضروبة عليها في التواصل السهل مع الأطراف. ولعله من نوافل القول إن أول سكك حديد في البلاد أسهمت في تنمية التجارة الداخلية والخارجية بشكل غير مسبوق.
وعلي مدار 26 عاما لم تكل جهود مصر في سبيل رفعة شأن إثيوبيا حتى إذا ما حل العام 1931 وعندما استشعرت القاهرة بأن جيلا من الإثيوبيين بات قادرا على أن يأخذ مقاليد إدارة بنك الحبشة بعد أن أصبح مؤسسة مالية واقتصادية ضخمة، قامت القاهرة بتسليم البنك (تسليم مفتاح) كهدية من الشعب المصري لشقيقه الإثيوبي. هكذا ببساطة، هدية في زمن لم تعد هناك هدايا مجانية بين الدول. ويشهد الخطاب الذي وجهه الإمبراطور هيلاسيلاسي في ذلك الوقت إلى الحكومة المصرية بمدى تقدير الإمبراطور الراحل لجميل مصر الذي وصفه بأنه من الصعب أن يرد عليه بمثله.
تأملت وجوه الحضور وقلت: "نعم، يجب أن أعتذر عن تاريخ وطني الاستعماري تجاهكم... نعم يجب أن يعتذر ٩٠ مليون مصري عن خطيئة أجدادهم في حقكم.. نعم، يجب أن أستشعر الخزي كلما رأيت فرعا لبنك الحبشة الذي مازال هو البنك الرئيسي في إثيوبيا لأنه يذكرني بتاريخ وطني الاستعماري..".
ثوانٍ وبدأ احد الحضور بالتصفيق كي يتبعه آخرون بتصفيق حاد... وللحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة