السينما اللبنانية في العام 2015.. حراك يُنتج أفلامًا ويُوثِّق معلومات
غلب الطابع التجاريّ الاستهلاكي البحت على إنتاج السينما اللبنانية خلال 2015، لكن تجارب قليلة تستدعي توقّفاً نقدياً
لم تواجه السينما اللبنانية ـ خلال العام 2015 ـ تحدّيات تتطلّب ابتكارًا لتجديد بصري في مقاربة الحكايات والحالات والمسائل، بقدر ما استمرّ إنتاجها معقودًا، بغالبيته، على التجاريّ الاستهلاكي البحت، لكن تجارب قليلة تستدعي توقّفًا نقديًّا يُحاكي بعض جمالياتها الفنية والتقنية والدرامية، ويلتقط شيئًا من نبض الاشتغال السينمائي اللبناني، المرتكز على ثنائية واضحة المعالم: اختيار مواضيع إنسانية حسّاسة ومهمّة، ومعالجتها بالاستناد إلى قواعد صناعة الصورة ومتطلّباتها الإبداعية المختلفة.
وهذا، إذ يُعيد مقولات نقدية سابقة حول "ندرة الجدّي" و"كثرة العاديّ"، يذهب إلى ما هو أبعد بقليل؛ لأن "الجدّي النادر" يتكشّف ـ مرة تلو أخرى ـ عن تقدّم ملحوظ في صوغ مشهدياته السينمائية، على مستوى استخدام سليم للّغة، كما للأداء والتفاصيل الفنية والتقنية.
في حين أن "العادي الكثير" يزداد سوءًا وانحدارًا، في مقابل تنبّه ملحوظ للمُشاهدين المفترضين إلى خوائه واستسهاله التعاطي مع الصورة والموضوع من ناحية أولى، ومع أداوت التسلية والترفيه من ناحية ثانية.
ففي حين يقع "السيدة الثانية" لفيليب أسمر في أطر عادية وتقليدية وباهتة، يخرج "فيلم كتير كبير" لميرجان بو شعيا على سائدٍ لبناني موزّعٍ على نمطين متصادمين: الاستهلاكيّ البحت، والموغل في جدّيته الصارمة وجمالياته السينمائية.
لن يختزل الفيلمان اللبنانيان هذان الصورة المتكاملة للحراك السينمائي اللبناني خلال العام 2015، لكنهما يُقدّمان نموذجًا عن آلية العمل الإنتاجي، من دون تناسي وجود اختبارات أخرى تختلف عنهما، فيُصبح الكلام عليها مختلفًا هو أيضًا. فـ "السيدة الثانية" يعكس حالة متفشية في المشهد السينمائي اللبناني، متمثّلة بتبسيطٍ حادٍّ للمعالجة الدرامية لحكايات يصفها صانعوها بأنها مستلّة من وقائع العيش اللبناني، فإذا بالنتيجة النهائية للمعالجة هذه مجرّد ترتيب بصري لمتتاليات يُراد لها إضحاك المتفرّجين وتسليتهم، وإنْ بأشكال غير مستحبّة بصريًا وفنيًا.
بينما "فيلم كتير كبير" ـ الفائز بجائزة "النجمة الذهبية" في الدورة الـ 15 (4 ـ 12 ديسمبر 2015) لـ "مهرجان الفيلم الدولي بمراكش" ـ يجمع بين بساطة السرد وجمالية التقاط الواقع وعفوية التمثيل، في محاولة سينمائية مثيرة للانتباه تسعى إلى مزج التجاريّ بالتسلية، والاشتغال الجدّي بالترفيه.
يتناول "السيدة الثانية" مسائل مرتبطة بالبطالة والشيخوخة ومصير المسنين في دور العجزة، بالإضافة إلى الفقر والمشاكل الحياتية التي تمسّ كل مواطن. بينما يذهب "فيلم كتير كبير" إلى أعماق الاجتماع اللبناني، عبر شخصيات تغرق في صراعات مرتبطة بتجارة المخدرات والعالم السفلي والنزاعات الانفعالية وغيرها.
في مقابل هذا كلّه، عُرضت ثلاثة أفلام لبنانية جديدة في الدورة الـ 12 (9 ـ 16 ديسمبر 2015) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"، يكشف كل واحد منها عن جانب بصري في صناعة الفيلم المحلي: "بالحلال" لأسد فولادكار، و"باريسية" لدانييل عربيد، و"روحي" لجيهان شعيب. فولادكار، المنغمس في العمل التلفزيوني المصري منذ أعوام عديدة، يُحقّق ثاني روائي طويل له بعد "لما حكيت مريم" (2002). وعربيد تبدو، في رابع أعمالها الروائية الطويلة، كأنها تستكمل ما صنعته في "معارك حبّ" (2004)، وإنْ من وجهة نظر مختلفة. أما شعيب، فتسعى إلى ترميم ذاكرة لبنانية مفكّكة، بطرحها أسئلة الانتماء والهوية والجغرافيا والروح والعلاقات والأوهام والخديعة.
يختلف "بالحلال" عن فيلمي عربيد وشعيب، باكتفائه بكثيرٍ من الكوميديا الغالبة على نصّ يروي بعض أحوال شخصيات مشبعة بثقافة "الحلال والحرام" في عيش يومياتها المفتوحة على العلاقات والانفعال والمشاعر. أما عربيد، فبعد 10 أعوام تقريبًا على قراءتها السينمائية الجميلة أنماط العيش في منطقة مسيحية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (معارك حب)، تذهب إلى المنفى الباريسي مطلع تسعينيات القرن المنصرم، كي تعكس مرارة الهجرة، وتكشف شيئًا من الحالة الفرنسية إزاء المهاجرين، عبر عينيّ لينا (منال عيسى)، ابنة الأعوام الـ 17، التي تجد نفسها وحيدة في باريس الذاهبة إليها من أجل دراسة جامعية، فتبدأ رحلة اكتشاف ومعرفة وتجربة روحية وجسدية في آن واحد.
في حين أن شعيب تعود، رفقة الممثلة الإيرانية الفرنسية كَلشيفته فراهاني، إلى قرية لبنانية بحثًا عن أجوبة لأسئلة معلّقة، عن الحرب وأفعالها، وعن الجَدّ وسلوكه، وعن العائلة وتفكّكها، وعن العلاقات وانكساراتها، وعن معنى نبش القبور في راهن ملتبس.
بعيدًا عن الأفلام هذه (لم يُعرف بعد ما إذا كانت أفلام فولادكار وعربيد وشعيب ستُعرض في بيروت أم لا خلال العام 2016)، يُحقّق هادي زكّاك فيلمًا وثائقيًا بعنوان "كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة". أهمية الفيلم مزدوجة: فالشخصية المختارة فاعلة في المشهد السياسي ـ الاجتماعي ـ الثقافي اللبناني على مدى أعوام طويلة قبل اغتيالها في 16 مارس 1977 عن 60 عامًا.
وعرضه التجاريّ يؤكّد إمكانية المغامرة الإيجابية بالنسبة إلى الموزّعين وأصحاب الصالات، إذ أن أسابيع عرضه المديدة تُعتَبر حافزًا لاختبار نمط آخر من التواصل السينمائي الوثائقي مع المشاهدين.
الأفلام المذكورة أعلاه مختلفة الأساليب والاشتغالات، لكنها تتشابه في رفد المشهد المحلي بكَمّ من العناوين والمواضيع المفتوحة على الأسئلة كلّها، والحكايات كلّها. أفلام روائية طويلة تبدو كأنها تؤكّد بعض المؤكّد: الحراك السينمائي اللبناني مستمرّ في ضخّ أعمال تتمّ غربلتها عادةً عبر شبابيك التذاكر (أي كيفية تعامل المشاهدين اللبنانيين المفترضين أو المحتملين معها)، ثمّ عبر قراءات نقدية سوية.
غير أن المشهد اللبناني لن يرتكز على الأفلام وعروضها التجارية أو مشاركاتها في مهرجانات دولية وعربية فقط. فالعام 2015 يشهد تجربة مهمّة يجب الاستفادة منها، والعمل الدؤوب على بلورة خطّها الثقافي، متمثّلةبصدور كتابين اثنين، أحدهما باللغة الفرنسية لماتيلد روكسل بعنوان "جوسلين صعب، الذاكرة الجامحة" (منشورات "دار النهار"، بيروت)، والآخر باللغة العربية لعبودي أبو جودة بعنوان "هذا المساء ـ السينما في لبنان (1929 ـ 1979)"، المتضمّن 252 ملصقًا و740 صورة و110 صور مطبوعة على الـ "كرتون"، بالإضافة إلى 60 مقالة و34 إعلانًا صحفيًا تتناول كلّها 230 فيلمًا مُصوَّرًا في لبنان.
الأول يقترب من السيرتين الحياتية والمهنية لإحدى أبرز المخرجات اللبنانيات المنتميات إلى جيل "السينما البديلة"، الناشئة في لبنان عشية اندلاع الحرب الأهلية، وفي أعوامها الأولى.
والثاني أرشفة وتوثيق لجانب من جوانب الصناعة السينمائية، متمثّل بالملصقات والإعلانات والصُور، علمًا أن الكتاب هذا دليل شبه شامل عن السينما اللبنانية، "يحمل أسماء أصحابها من منتجين ومخرجين وتقنيين وممثلين، مع تاريخ عرض الفيلم في حال توافر المعلومة، واهتمام خاص بمعرفة مصمّم الملصق ومنفّذه".
الكتابان حاجة ملحّة في المكتبة السينمائية اللبنانية.
نادرةٌ هي تلك الكتب المعنية بسرد سير حياتية ومهنية لسينمائيين فاعلين في صناعة صورة ـ روائية أو وثائقية ـ تعكس شيئًا من وقائع العيش في لبنان. ما هو نادر أكثر من هذا كامنٌ في التوثيق. فالراغب في الحصول على معلومة مؤكّدة يواجه صعوبات شتّى في ذلك، لافتقاد المكتبة السينمائية معلومات كهذه، بينما يحاول الكتابان المذكوران سدّ بعض الفراغ، عبر توثيق يروي فصولًا من حكاية مخرجة، أو عبر أرشفة لمعطيات عملية تبتعد عن النقد والتحليل، كي تقترب أكثر فأكثر من التأريخ الموثّق.
aXA6IDMuMTM5LjEwOC45OSA= جزيرة ام اند امز