تدل المعطيات المتوافرة في الأسواق، على أن مسيرة أسعار النفط المنخفضة ستستمر خلال النصف الأول من 2016.
تدل المعطيات المتوافرة في الأسواق، على أن مسيرة أسعار النفط المنخفضة ستستمر خلال النصف الأول من 2016. وآخر مؤشر يدعم هذا الاتجاه، موافقة مجلسي الكونغرس على تصدير النفط الأميركي، بعد منع التصدير منذ المقاطعة النفطية العربية للولايات المتحدة خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973.
لكن العامل الرئيس في تدهور أسعار النفط الخام، يبقى الإخفاق في موافقة الدولتين الكبريين سياسياً ونفطياً، في التعاون مع منظمة «أوبك» وتحمّل مسؤولية استقرار الأسواق. فالدول المنتجة الكبرى في المنظمة غيرت سياستها التقليدية في أداء دور المنتج المرجِّح، عبر تحمّل كامل المسؤولية لاستقرار الأسواق، وباتت تصرّ على مشاركة الدول المنتجة الكبرى غير الأعضاء في «أوبك» في تحمّل المسؤولية، بخفض الإنتاج مع البلدان الأعضاء في «أوبك».
لماذا هذا القرار الآن، ولماذا الإصرار على هذه السياسة على رغم تدهور الأسعار إلى أقل من 40 دولاراً للبرميل، أي أقل بنسبة 70 في المئة عن مستواها البالغ حوالى 100 دولار للبرميل قبل حزيران (يونيو) 2014؟
يعود السبب في ذلك إلى الطاقة الإنتاجية الضخمة المتوافرة عند الدولتين الكبريين غير العضوين في المنظمة، الولايات المتحدة مع الإنتاج الضخم للنفط الصخري، وروسيا مع تكثيف الإنتاج من مناطق جديدة في سيبيريا بالتعاون مع الشركات العالمية. وبلغ معدل إنتاج كل من الولايات المتحدة وروسيا نحو 10 ملايين برميل يومياً، ما يضعهما مع السعودية في مصاف أعلى ثلاث دول إنتاجاً في العالم. والأهم من ذلك، أن لروسيا والولايات المتحدة طاقات إنتاجية ضخمة لا تزال غير مستغلّة. لكن هذه الموارد تحتاج أسعاراً عالية لإنتاجها، ما يعني أن لدى الدولتين الطاقة الإنتاجية اللازمة لتصدير إمدادات كبيرة في حال ارتفاع الأسعار، ويعني أيضاً أن في مقدورهما إحلال نفوطهما بدلاً من نفوط المنظمة في الأسواق العالمية في حال خفض بلدان «أوبك» الإنتاج من طرف واحد.
يُذكر أن حصة «أوبك» في الأسواق انخفضت من ثلثي الإنتاج العالمي إلى ثلثه. وفي غياب تنسيق للسياسات بين المنظمة والدول المنتجة خارجها، وهو أمر لا يزال متعذراً حتى الآن، لا يمكن أن نتوقع نهاية لتدهور الأسعار. وستؤدي التخمة التخزينية القائمة الى الضغط على الأسعار. وسبب هذه التخمة، الزيادة التي حصلت في الإنتاج، وضعف الطلب خلال الفترة الماضية. ووفق معلومات وكالة الطاقة الدولية، ازداد إنتاج النفط الخام (يشمل أيضاً المكثفات والوقود العضوي) من 93.6 مليون برميل يومياً في 2014 إلى 96.1 مليون عام 2015، أي بزيادة 2.5 مليون برميل يومياً. لكن الطلب العالمي على النفط الخام في الفترة نفسها، ارتفع من 92.8 مليون برميل يومياً إلى 94.6 مليون، أي بواقع 1.8 مليون برميل يومياً فقط.
واضطرت الشركات النفطية إلى تخزين النفط الفائض في خزانات برية، وبعد تخمة هذه الخزانات، لجأت الشركات إلى التخزين في الناقلات، أي بحراً. وما دام استمرار هذا المخزون الضخم من النفط الخام قائماً، سيعني ذلك أن الإمدادات أكثر من الطلب العالمي، ما سيؤدي إلى انخفاض الأسعار. ولخفض هذه التخمة، يجب إما خفض الإمدادات أو زيادة الطلب في شكل ملحوظ، والأمر الثاني غير وارد الآن نظراً إلى ضعف النمو الاقتصادي العالمي. وكان الاتكال في السنوات الماضية على نسب نمو عالية جداً في الصين، وعلى رغم أن أرقام نسب النمو الصينية تبقى عالية مقارنة بغيرها من الدول، إلا أنها أقل من السابق.
وتتوقع الأسواق زيادة الصادرات النفطية الإيرانية منذ توقيع الاتفاق النووي بين طهران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً ألمانيا، إضافة إلى التقارير الإيجابية حول تنفيذ إيران بنود الاتفاق. وهذا يعني أن الزيادة في الصادرات الإيرانية على وشك أن تبدأ. وتشير التوقعات أن في استطاعة إيران زيادة صادراتها نحو 500 ألف برميل يومياً. وبما أن الأسواق متخمة بالنفط، ستواجه إيران صعوبات في العودة إلى أسواقها التقليدية، خصوصاً الآسيوية. ويُتوقَّع أن تحصل المصافي التي ستستورد النفط الإيراني على حسوم ستشكل ضغطاً على المعادلات السعرية للدول المصدّرة الأخرى بهدف التنافس على الأسواق.
من جهة أخرى، أدى تدهور الأسعار إلى تغيرات مهمة في الصناعة النفطية العالمية. انخفضت الاستثمارات في قطاعي الاكتشاف والتطوير، فتقلصت الطاقة الإنتاجية المتوافرة في الأعوام المقبلة، ما يعني زيادة احتمال ارتفاع الأسعار خلال الأعوام المقبلة.
المهم في الأمر، تفهم دروس الدورات الاقتصادية للنفط الخام. هناك إخفاق في العديد من الدول المنتجة، التي تستمر في رسم موازناتها العامة السنوية على أساس أن أسعار النفط في ارتفاع مستمر من دون تغيير، فتضع موازنات وتوافق على مشاريع ضخمة من دون الأخذ في الاعتبار الدورات الاقتصادية النفطية. أصبح صعباً الاستمرار في السياسات الاقتصادية التي جرى تبنيها خلال العقود الماضية، حين هيمن النفط العربي على الأسواق، وهيمن النفط الخام على سلة الطاقة العالمية من دون غيره من مصادر الطاقة. هناك الآن منافسة قوية وحقيقية من النفط الصخري. وهناك بداية عصر جديد سيبدأ في العقود القليلة المقبلة، هو عصر ما بعد اتفاق باريس المناخي، إذ يُتوقَّع انحسار استهلاك الوقود الأحفوري تدريجاً وازدياد الاستثمارات في البدائل المستدامة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة