تصريحات المسئولين حول تشجيع الاستثمار، والمؤتمرات، لا تكفى لإخفاء فشل سياسة الحكومة فى جذب الاستثمار المحلى والأجنبي
تصريحات المسئولين حول تشجيع الاستثمار، والمؤتمرات والرحلات التى لا يكاد يخلو أسبوع منها، لا تكفى لإخفاء حقيقة أن ما يدفع مصر إلى مزيد من الاقتراض من البنك الدولى وبنك التنمية الأفريقى ومن البلدان العربية الشقيقة هو فشل سياسة الحكومة فى جذب الاستثمار المحلى والأجنبى. وبرغم أن حجم الدين العام الخارجى لا يزال آمنا وفقا للمعايير الدولية، إذ لم يتجاوز بعد ٢٠٪ من الدخل القومى (بينما وصل حجم الدين فى اليونان هذا العام إلى اثنى عشر ضعف هذه النسبة)، إلا أن الحالة الراهنة من التخبط فى سياسات الاستثمار تبعث على القلق، وتنذر بمزيد من الاقتراض مستقبلا، والتعثر فى تحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة.
أسباب كثيرة جعلت عام ٢٠١٥ ينتهى على هذا الحال، بعد أن كانت بدايته مليئة بالوعود والتطلعات. على رأسها التمسك بقانون الاستثمار الصادر فى شهر مارس من هذا العام، والذى حذر المتخصصون من عواقبه، ولم يضف فى النهاية سوى المزيد من التعقيد والبيروقراطية. هذا القانون أعاد مناخ الاستثمار سنوات إلى الوراء، وصار مصدرا للتندر والسخرية فى أوساط المستثمرين. وبينما يعانى الاقتصاد القومى من استمرار البطالة، وضعف الإنتاج، وقلة التصدير، لا يزال الصراع دائرا بين وزارة الاستثمار وباقى الوزارات حول تفسير مواد القانون، فيما يتعلق بسلطة تخصيص أراضى الدولة. ومع ذلك تكابر الحكومة فى تمسكها به دون سبب واضح، سوى الخشية من الاعتراف بالخطأ.
هناك أيضا حالة انفصام الشخصية التى تميز تعامل الدولة مع المستثمرين، والتى تتراوح بين دعوتهم لحضور اجتماعات ولقاءات مع كبار المسئولين، والإلحاح عليهم فى التبرع لمشروعات وصناديق خيرية، وإصدار قانون جديد كل عام للتصالح معهم، وترتيب مصاحبتهم لرئيس الجمهورية فى رحلاته الخارجية، وبين فرض رسوم وغرامات غير محددة المعالم، وإطلاق يد أجهزة الدولة فى الجباية، وعدم غلق التحقيقات والدعاوى المفتوحة منذ سنوات، والتنكيل بمن يخرج عن الخط الرسمى. كل المطلوب هو أن يكون هناك قانون واضح، وضوابط محددة، وضرائب معلومة، بدلا من استمرار هذه العلاقة المريضة بين الدولة والمجتمع الاستثمارى.
بعد ذلك نأتى إلى التجاهل التام للمشروعات الصغيرة والمتوسطة برغم أنها الوسيلة الوحيدة لتوفير فرص العمل التى يبحث عنها الشباب، ولفتح مجالات الاستثمار لصغار المنتجين، وإطلاق طاقات العمل والإبداع. لم يعد لجمعيات صغار المستثمرين وجود على الساحة، ولا مساندة للصندوق الاجتماعى، ولا يوجد تشريع واحد جديد يستهدف حل مشاكل صغار المستثمرين والصناع، ولا سياسة حكومية لدعمهم. حتى المبادرة التى أطلقها البنك المركزى الأسبوع الماضى لتوفير تمويل لهذا القطاع لن تحقق أثرا يذكر لو لم تواكبها سياسة حكومية متكاملة للنهوض بقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة والتعامل معه بجدية.
وأخيرا، نجد أن اهتمام الدولة قد انصب على موضوع واحد فقط وهو المشروعات القومية الكبرى، والتى لا نعلم عنها إلا القليل: لا دراسات جدوى، ولا تنظيم قانونيا، ولا معلومات منشورة، ولا تحديدا لمصادر التمويل، ولا مشاركة مجتمعية فى النقاش الدائر بشأنها، وذلك برغم أن بعضها ــ لو لم يستند إلى دراسات وافتراضات سليمة ــ يمكن أن يستهلك مدخرات الشعب، أو يزيد مديونيته فى المستقبل، أو يربط البلد بالتزامات غير معلومة، أو ينتهى فى ساحات التحكيم الدولى والتعويضات، وبينما يحق للشعب أن يعلم أصل وفصل هذه المشروعات الكبرى، فإننا بدلا من ذلك نسمع عن قرار يحظر النشر حول مشروع محطة الضبعة النووية كما لو كان قضية إرهابية.
إلقاء اللوم على فساد المحليات وبيروقراطية الإدارة ليس مبررا للتراجع الشديد الذى حدث فى مناخ الاستثمار، وفى ثقة المستثمرين خلال هذا العام. الأزمة الحقيقية هى سوء الإدارة الاقتصادية، وغياب الرؤية الواضحة، ونقص الشفافية فى السياسات الحكومية. لا تزال الأسئلة المطروحة منذ شهور طويلة بلا إجابة: هل تعتمد الدولة على نمو القطاع الخاص أم على إعادة إنشاء القطاع العام؟ هل تسعى لإدماج مصر فى الاقتصاد العالمى أم تميل إلى الاعتماد على الذات؟ هل تستند إلى آليات السوق أم تتدخل فى توفير السلع والخدمات وتحديد أسعارها؟ هل تتجه إلى سعر صرف واقعى أم تسعى لتثبيت سعر العملة المحلية؟ هل تريد للاستثمار أن ينمو بمشروعات جديدة أم تكتفى بزيادة حصيلة الغرامات والتصالحات؟ وهل لديها تصور متكامل لتحسين مستوى الخدمات العامة، والحد من ارتفاع الأسعار، وتوفير فرص العمل؟ أم مجرد كلام مرسل عن العدالة الاجتماعية؟.. هذه كلها أسئلة مشروعة يطرحها المستثمرون، الكبار منهم والصغار، ويدفعهم الغموض بشأنها إلى مزيد من الإحجام والتردد.
استمرار هذا التخبط فى العام الجديد، سوف يدفعنا إلى المزيد من الاعتماد على القروض والمنح الدولية، ويضيع علينا فرصة التنمية الاقتصادية. على مصر أن تجد طريقها وبسرعة إلى سياسة متوازنة وعادلة ومستدامة للنهوض بالاستثمار وتوزيع فرصه وثماره، وإطلاق طاقات المجتمع فى مجالات جديدة.
***
كل عام وأنتم والوطن بخير
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة