إذا كانت هناك كلمة يمكنها أن تلخّص العام الذي ينقضي فإنها ستكون حكماً كلمة اللاجئين.
إذا كانت هناك كلمة يمكنها أن تلخّص العام الذي ينقضي فإنها ستكون حكماً كلمة اللاجئين. اما الصورة الحزينة التي تمثل هذه المأساة، فلن تعثر على تعبير عنها أفضل من جثة الطفل ايلان كردي ممددة على ذلك الشاطئ التركي، بعد ان فشل والده في انقاذه من غدر امواج البحر.
أعرف ان هناك كلمات يمكنها أن تنافس كلمة «لاجئين» على التعبير عن احداث هذا العام، مثل «داعش» او الإسلاموفوبيا. ولكن الصور التي تتالت لقوافل اللاجئين الذين خاضوا أقسى المغامرات مع عواصف البحر وأنوائه للوصول الى شاطىء نجاة، وأكثرهم لم يتسنّ له الوصول فغرق في الحلم، هذه المشاهد تبقى الأكثر تعبيراً عن مآسي مجتمعاتنا التي صار الموت فيها او هاجس الموت هو الخطر اليومي الذي يحدق بالناس، حتى صاروا مستعدين للتخلي عن كل شيء: البيت والأهل والعائلة والهوية والانتماء، في سبيل العيش، فقط العيش، ولو في بلاد تبعد آلاف الأميال البحرية وتفصلها عنهم كل الحواجز التي يمكن تخيّلها: اللغة والدين والثقافة وتقاليد الأكل والشرب والملبس والنزهة والمدرسة والحديقة العامة وأماكن الصلاة.
اللاجئون. كلمة واحدة تكفي للتعبير عن الكارثة التي حلّت ببلداننا. الوطن هو عادة المكان الطبيعي الذي يلجأ الإنسان إليه ليحتمي به. الهجرة ليست هي المكان الطبيعي لسكن الناس ولراحة عيشهم ولتربية أطفالهم. لذلك كان الحنين الى الوطن هو عنوان قصائد الشجن، التي يحملها الناس معهم في حقائب الغربة، ويصدحون بها كلما مرت ببالهم ذكريات الحياة التي كان يمكن ان تكون أحلى في اوطانهم.
اللاجئون. قدرهم أنهم ولدوا في بلدان طاردة لشعوبها. على عكس بلاد الناس الأخرى التي توفر لإبنائها كل سبل الحياة الكريمة ليستقروا فيها أو ليعودوا إليها. شبابنا في المهاجر. نخبنا المثقفة والقادرة على إخراج مجتمعاتها يوماً ما من دوامة البؤس والجهل والفساد وسوء الإدارة، تبحث عن أي فرصة عمل في الخارج، وإذا وجدتها يصبح الوطن مجرد ذكرى تعلّق على جدار، أو تُحفظ صورة في ألبوم الزمن الذي مضى.
يخرج اللاجئون من أوطانهم إلى حلم العيش الكريم في بلدان أوروبية اعتادت على مدى تاريخها أن تكون ملجأ للمضطهدين. تسمح ثقافاتها باستيعاب الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية والفكرية. لكن، حتى ثقافة الاستيعاب هذه باتت مهددة ايضاً بفعل عامل الخوف والقلق الأمني الذي يزرعه الإرهاب المنسوب إلى تنظيمات تدّعي الإسلام. هكذا يصبح اللاجئ الباحث عن أبسط ظروف الأمان منكوباً في وطنه ومنكوباً على شواطىء الغربة، حيث تتّسع وتكبر نظرات الشك من هذا القادم من بعيد، الذي يمكن أن يشكّل في نظر البعض مشروع قنبلة متفجّرة أو انتحاري متجوّل.
أوطاننا تتغيّر بشرياً من داخلها وتتغيّر جغرافياً عبر حدودها. تغيّر بشري وجغرافي وسياسي ليس معروفاً مداه ولا أين يمكن أن يستقرّ. أرقام منظمة غوث اللاجئين تتحدّث عن أكثر من مليون لاجئ هربوا من بلدان العالم العربي والشرق الأوسط هذا العام، في أكبر عملية نزوح إلى القارة القديمة منذ الحرب العالمية الثانية. فيما تجاوز عدد اللاجئين والهاربين من أوطانهم بسبب مختلف النزاعات حول العالم ستين مليوناً. أما أوطان الغربة التي يسعى اللاجئون إليها فتتغيّر هي أيضاً. وباستثناء قلة من الدول والشعوب الأوروبية التي لا تزال تحافظ على تعقّلها في التعامل مع أزمة اللجوء، تنتشر أصوات عنصرية، كانت إلى الأمس القريب، مذمومة في بلادها، لكنها أصبحت اليوم ترفع الصوت مطالبة بإغلاق الحدود وفحص الانتماءات الدينية للاجئين، واستبعاد المسلمين من بينهم، قبل تسهيل إقاماتهم.
أزمة اللاجئين ذات حجم عالمي لا تهدّد استقرار بلداننا ومستقبلها فقط. إنها تهدّد الاستقرار العالمي وقدرة الناس على التعايش والتفاهم ومواجهة الأزمات والكوارث معاً بقلوب وعقول منفتحة. إنها ببساطة تكشف قدرتنا على التعامل مع بعضنا كبشر، وما ترتّبه علينا هذه الهوية من التزامات إنسانية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة