ولعله مما يثير التعجب أنه على الرغم من خطورة أوضاعنا الاقتصادية إلا أنها لا تحظى بما يجب أن تستحقه من نقاش عام للخروج منها
نهاية ديسمبر هى مناسبة للتأمل فيما تم إنجازه فى العام المنصرم واستخلاص الدروس عما يجب عمله فى العام الجديد إما لتلافى أخطاء ماضية وإما لتحسين الأداء فيما لو كان هناك شعور بالرضاء عما تحقق بالفعل. هذا تقليد يجب أن يتحلى به الأفراد مع عدم إنكار حقهم فى الاحتفال الشائع بنهاية العام، وهو ضرورة للشعوب وللحكومات التى تقودها، فثمن تكرار الأخطاء غال وخصوصا فى مجتمعات لا تزال تناضل لتوفير العمل والعيش الكريم لمواطنيها، فالاستمرار على نهج خاطئ من شأنه أن يبعد احتمال بلوغ هذه الغايات إلى المستقبل البعيد، ويكون ثمن ذلك مزيدا من عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى، بل أن ينفجر عدم الاستقرار فى صورة انتشار الجريمة أو اندلاع حرب أهلية على نحو ما نشهد بالفعل فى مجتمعات قريبة منا.
فما هى تلك الدروس التى يتعين علينا أن نستخلصها من شهور 2015 التى توشك أن تودعنا بعد أيام قلائل. لا يسمح المجال بتعداد كل تلك الدروس، واستعراضها فى جميع الأحوال هو انتقائى بالضرورة، ولكن يكتفى الكاتب بطرح ما يبدو له أنه أهمها، من حيث إنه هو الذى يحكم المستقبل المنظور بل والبعيد أيضا. أول هذه الدروس هو عدم وضوح رؤيتنا بالنسبة لكيفية مواجهة مشكلتنا الاقتصادية، وثانيها هو استخفافنا بضرورة مواكبة التطلع العالمى والمشروع لإقامة دولة القانون، وثالثها هو عدم فاعلية سياستنا الخارجية.
***
ولعله مما يثير التعجب أنه على الرغم من خطورة أوضاعنا الاقتصادية إلا أنها لا تحظى بما يجب أن تستحقه من نقاش عام وحوار حول بدائل الخروج منها أو التخفيف من حدتها، استسلاما لوهم أنها ستحل من تلقاء ذاتها، أو أن معجزة خارجية قد تنقذنا منها أو أن ما نقوم به من مشروعات يتحمس لها الإعلاميون هو طريق الخلاص. عجز كبير فى الموازنة العامة تختلف تقديراته أخفقت جهود الحكومة فى التخفيف بسرعة منه، بل يحتمل أن يستمر فى الزيادة على الرغم مما تبذله من جهود، وتآكل فى مصادر الدخل الأجنبى بل احتمالات متزايدة بأن تضطر مصر لخسارة مليارات من الدولارات من دخلها المحدود من هذه العملات لتسدد قيمة غرامات مالية حكمت بها عليها محاكم تحكيم دولية رفع إليها عملاء أجانب للحكومة المصرية شكاواهم من بعض ممارساتها غير الحصيفة، وأقرت لهم بصحة ما ادعوه وطلبت من الحكومة المصرية التعويض. فى ظل هذه الأوضاع سوف يكون من الصعب تحسين الخدمات الحكومية من تعليم وصحة ومواصلات بين المدن أو داخلها، كما سوف يكون من المتعذر الوفاء بحاجات السوق المحلية من غذاء ومستلزمات إنتاج، وهو ما سيؤدى بالضرورة إلى الاكتفاء بمعدل نمو لا يحقق تقدما لا فى تقليل عدد العاطلين ولا فى تخفيف حدة الفقر الذى ينال أكثر من ربع السكان أو قرابة ثلاثة وعشرين مليونا منهم.
طبعا هذه قضايا معروفة، ولكن هل نحن نسير على الطريق الصحيح الذى يؤدى إلى حل هذه التحديات الاقتصادية؟ تأخذ حكومتنا بأسلوب التخطيط، وهو الذى مكن شعوبا كثيرة فى شرق آسيا وجنوبها من قهر الفقر والبطالة والانطلاق إلى آفاق جديدة سواء فى غزو الفضاء أو كسب أسواق خارجية. ولكن الخطة فى مصر تتوارى إلى جانب مشروعات طموحة هى التى تلقى اهتمام الحكومة باعتبارها هى المشروعات التى يتبناها الرئيس. ولا ينكر أحد أن تكون للرئيس مشروعاته الطموحة، وأن تستأثر بالاهتمام، ولكن بشرط أن تخضع بدورها للحساب الاقتصادى الجاد من حيث ضرورتها ومدى أولويتها على غيرها من مشروعات والعائد المترتب عليها. كما أنه لا ينبغى لجهاز الحكومة أن تتوزع اهتماماته على هذا النحو فيكون له بالان، بال مع مشروعات الخطة، وبال آخر مع برنامج الرئيس. مواردنا المحدودة لا تسمح بهذا الترف، وخصوصا وأن المصادر الخارجية التى عولنا عليها كثيرا فى الماضى تواجه هى الأخرى صعوبات، مثلما هو الحال فى دول الخليج التى تشهد انخفاضا هائلا فى أسعار النفط الذى هو مصدر دخلها الرئيسى، كما أن أمامنا سنوات قبل أن نحصل على دخل إضافى سواء من اكتشافات الغاز الطبيعى أو من قناة السويس بعد توسيعها. وإذا كان ثمة مشروعات على الحكومة أن تضعها ضمن أولوياتها فهى تلك التى تؤدى إلى توسيع الطاقة الإنتاجية فى الصناعة والزراعة والمرافق الأساسية وليس تلك التى تقتصر على إشباع نهم مضاربى العقارات لمزيد من الثروة حتى لو كان ذلك على حساب أولويات ملحة أو مشروعات لم تخضع لدراسات جدوى اقتصادية ذات مصداقية.
***
وثانى التحديات التى نستخلصها من دروس العام الماضى هى ضرورة العودة إلى التأكيد على احترام دولة القانون بمعناه الصحيح الذى يشمل وقف انتهاكات حقوق الإنسان. قد يسرع البعض إلى القول بأن إنجاز آخر تعهدات خارطة الطريق وهو انتخاب مجلس النواب قد يكون كفيلا بتبديد أى مخاوف أن يتوارى هذا الملف فى غياهب النسيان، ولكن مما يدعو للأسى حقيقة أن هذه الحلقة الأخيرة فى تعهدات خارطة الطريق، مثل سابقتيها كانتخاب رئيس وإقرار دستور، لا تشجع على الاعتقاد بأن الطريق إلى إقامة دولة القانون قد أصبح مفتوحا، فنحن قد أخذنا من تعهدات خارطة الطريق نصها الحرفى وليس مضمونها وجوهرها. طبعا الطريق إلى الدولة المدنية التى استهدفتها خارطة الطريق يمر عبر انتخابات رئاسية ووضع دستور وانتخاب سلطة تشريعية، ولكن الانتخابات المقصودة هى الانتخابات التنافسية على مقعد الرئاسة، والدستور المقصود هو الدستور الذى يحمى الحقوق والحريات ويجد طريقه إلى التطبيق، والمجلس النيابى المقصود هو ذلك الذى تحرص أغلبية المواطنين على المشاركة فى انتخابه وهو الذى تسوده أغلبية ترى أن مهمته هى رقابة أعمال الحكومة ووضع النشريعات وضمان حسن التصرف فى المال العام وتوفير محفل للتعبير عن اتجاهات الرأى العام، أما أن تسود المجلس أغلبية موقفها المبدئى هو مساندة الحكومة أيا كان ما تقوم به، والتصديق على كل التشريعات التى اتخذتها فى غياب المجلس، والتزم أعضاؤها فى تصريحات متعددة عن عزمهم على التضييق من سلطات المجلس وتوسيع صلاحيات رأس السلطة التنفيذية، فذلك لا يشجع على الاعتقاد بأن هذا «الإنجاز» الأخير هو ضمانة للسير على طريق إقامة دولة القانون ووقف انتهاكات حقوق الإنسان.
والواقع أن احترام حقوق الإنسان وإقامة دولة القانون ليسا ضروريين فى حد ذاتهما فحسب انطلاقا من كونهما من مقتضيات الاعتراف بكرامة البشر، ولكنهما لازمان أيضا لتصويب الأداء فى المجال الإقتصادى ومحاسبة المسئول عن إهدار موارد البلاد المحدودة فى مشروعات لم تحظ بالدراسة الواجبة وكذلك لتوسيع نطاق اختيارات السياسة المتاحة أمام السلطة التنفيذية.
***
وأخيرا لابد من الاعتراف بتحسن ملموس فى إدارة سياستنا الخارجية من انفتاح على القوى الرئيسية فى العالم، ولكن يقلل من الشعور بالغبطة إزاء هذا التحسن الإدراك المؤكد بقلة فاعلية سياستنا الخارجية. فنحن لا نملك تأثيرا على صياغة التطورات لا فى العالم العربى ولا فى العالم الإفريقى. نحن لا نملك صوتا مسموعا فى الحوار حول مستقبل ليبيا أو سوريا أو اليمن أو فلسطين، ولا السودان بدولتيه ولا إثيوبيا. وليس من العسير معرفة أسباب ذلك. الدول المؤثرة فى مجال السياسة الخارجية هى تلك التى تملك موارد هذه السياسة سواء كانت موارد اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية أو مهارات دبلوماسية أو رمزية. وكما هو معروف مواردنا الاقتصادية منهكة ونحن نحتاج معونة الآخرين، وقواتنا المسلحة مشغولة عن حق بصيانة أمننا فى الداخل، ونحن عاجزون عن استخدام عناصر القوة الناعمة التى كانت لدينا لتدهور فى بعضها مثل التعليم والإعلام، ولغياب الخيال فى صنع السياسة الخارجية. كما أننا، وعلينا أن نصارح أنفسنا بذلك، لم نصنع فى بلادنا نموذج البناء الوطنى الناجح اقتصاديا وسياسيا الذى يمكن أن يكون ملهما لشعوب أخرى. وهكذا فالتقدم على طريق التنمية التى يعود عائدها على الجميع وعلى طريق إقامة دولة القانون هو أيضا سبيلنا لسياسة خارجية فعالة.
خواطر نهاية العام فى مصر ليست سارة، ولكن لا أمل فى إنجاز له مغزى فى العام الجديد ما لم نتعلم من عثراتنا الماضية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة