كانت واشنطن في ذلك الوقت تكتفي بالحظر الجوي والمساعدات الإنسانية، ثم اخترعت تعبير "القيادة من الخلف" وتركت الحرب الأهلية تستعر لأشهر
كانت الأزمة الليبية في أوجها قبل أسابيع من سقوط الرئيس الراحل معمر القذافي، وكان الربيع العربي في عنفوانه بعد سقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر، عندما عقد منتدي خاص عن العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي بحضور كل من السناتور جون ماكين والمسئول السابق مارتن إنديك، يومها سألتهما عن السياسة الأمريكية تجاه ما يحدث في ليبيا، وقلت: إنني يمكنني أن أتفهم السياسة حتي لو اختلفت معها، ولكن في هذه الحالة لا يمكنني فهمها، فهي من ناحية تؤيد هدف الليبيين في الإطاحة بالقذافي، لكنها في الوقت نفسه لا تفعل ما يكفي لتحقيق هذا الهدف.
ملحوظة: كانت واشنطن في ذلك الوقت تكتفي بالحظر الجوي والمساعدات الإنسانية، ثم اخترعت تعبير "القيادة من الخلف" وتركت الحرب الأهلية تستعر لأشهر تالية.
جون ماكين المنتقد دائمًا لأوباما جاء رده: لست وحدك فأنا أيضًا لا أفهم هذه السياسة؛ لأنه لا يمكن أن تقول: إن علي القذافي أن يرحل ثم لا تفعل شيئًا.
مارتن إنديك أجاب مدافعًا عن الإدارة بأن الشعب الليبي وليس الولايات المتحدة هو من يقرر مصير القذافي. وأضاف بأن لواشنطن اهتمامات إنسانية في ليبيا، ولكن ليست لها مصالح استراتيجية، لكني ذكرت له يومها أن ترك الأمور في ليبيا سيفتح الباب أمام منظمة القاعدة وغيرها من المنظمات المتطرفة لتجد مأوي لها، كما حدث في أفغانستان، وعندها ستكتشف واشنطن هذه المصلحة الاستراتيجية، وأكد السفير الليبي في واشنطن في ذلك الوقت علي أوجلي صحة هذا الكلام، وقال، إن الفراغ الأمني في ليبيا يمكن أن يفسح المجال لانتشار الإرهاب.
تذكرت هذه الحكاية وأنا أفكر في السياسات التي اتبعتها إدارة أوباما تجاه الربيع العربي، وهي السياسات التي تميزت غالبًا بعدم الوضوح وانطلقت دائمًا من المنطقة الرمادية، بعكس سياسات سلفه جورج دبليو بوش التي كانت ترى العالم بكل ما فيه على أنه أبيض أو أسود، وتختزل كل تشابكات السياسة الدولية في نحن .. وهم، هذا معنا وهذا علينا، ولخص تلك السياسة خطاب بوش أمام الكونجرس بعد هجمات سبتمبر بأن وضع العالم كله أمام أحد خيارين: "إما أن تكون معنا، أو مع الإرهابيين".
خطوط بوش الحادة والبسيطة كانت في الأغلب تتعارض مع ما في العالم من تعقيدات لم يكن يفهمها أو يبالي بفهمها، بل تعامل معها بعقلية الكاوبوي وأطلق عبارته الشهيرة Bring it on، والتي تحمل كل معاني التحدي التي كان يستخدمها الفتوات في حواري القاهرة القديمة على طريقة: أعلى ما في خيلك اركبه، أو وريني هاتعمل إيه.
ثم جاء أوباما بعقلية مختلفة تماما لأستاذ قانون دستوري، يقترب من كل مشكلة محاولًا فهم أبعادها والتعقيدات المحيطة بها قبل أن يصل إلى قرار بشأنها، في البداية بدا هذا الأسلوب مريحًا للأمريكيين، وللعالم الذي عانى من سياسات بوش ومغامراته العسكرية المدمرة، كما حدث في العراق، ولكن مع الوقت تراجع ذلك الشعور، صحيح أن دول العالم لم تكن راضية عن صلافة بوش التي فرضت سياسات واشنطن بغطرسة حتى على الدول الحليفة، لكن تلك الدول لم تكن مستعدة أيضًا للفراغ الذي تركته واشنطن في قيادة النظام العالمي، ولخصه وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس منذ عدة سنوات بقوله: إننا لا نعيش في عالم القطب الواحد، أو عالم متعدد الأقطاب كما يرى البعض ، بل هو عالم اللاقطبية.
لكن هذا الفراغ ما كان له أن يستمر، وبدأت قوي أخري ـ أقل حجمًا وتأثيرًا من أمريكا لكنها أكثر إصرارًا ووضوحًا في أهدافها ـ تسعي لملئ هذا الفراغ. وتشجعت دولة مثل روسيا علي التحرك السريع المباغت في العديد من الساحات الدولية، كما حدث في أوكرانيا والآن في سوريا، ليس فقط لمساعدة الأطراف الموالية لها، ولكن أيضًا بالتدخل المباشر، كل هذا وأوباما لا يزال يتجادل مع مساعديه في نوعية المساعدات التي يجب تقديمها للمعارضة السورية، وطبيعة هذه المعارضة، وكيفية تقديم المساعدة في حال الموافقة عليها، وفي النهاية تمر السنوات دون حسم أو سياسة واضحة فيما وصفته في مقال سابق بـ "العقدة الهاملتية" التي قد يكون لصاحبها منطلقات صحيحة تجعله يجادل كثيرًا مع نفسه في صحة ما ينوي أن يفعله ومدي استقامته الأخلاقية، لكنه في النهاية يفقد القدرة على المبادرة وعندما يستعيدها ربما يكون وقت الفعل قد فات وتبقي فقط محاولة احتواء الآثار السلبية أو المدمرة. حدث ذلك في ليبيا التي رأينا كيف تطورت الأمور فيها، ليس فقط بسبب التأخير في الفعل، ولكن أيضًا عدم متابعته بما يضمن الانتقال السلمي للسلطة والاستقرار في بلد لم يعرف غير القذافي على مدى أكثر من أربعة عقود، ثم تكرر الخطأ في سوريا التي كان من الممكن عمل شيء فيها قبل أن تصبح واحة لداعش والقاعدة وتنهار الدولة بشكل كامل، هذا لا يعني بالضرورة غزو سوريا عسكريًّا كما حدث في العراق، لكنه التدخل الحاسم خاصة لدي الأطراف المؤثرة بحيث لا تترك الأمور تنحدر إلى ما صارت إليه، وأن يكون لدي تلك الأطراف قناعة بأن واشنطن على استعداد لاستخدام القوة، فهذا قد يحقق الهدف المطلوب حتي لو لم تلجأ إليها عمليًّا.
من يكتب هذا الكلام لا يعتبر نفسه معارضًا لأوباما، بل أيدته مرتين في الانتخابات الرئاسية، وما زلت أعتقد في صحة توجهاته العامة ومنطلقاته الأخلاقية، لكن الأدوات التي لجأ إليها لا ترقي لمواجهة التحديات الهائلة لهذه المرحلة، وهو ما سيترك ذلك التساؤل: لماذا ندفع دائمًا ثمنًا باهظًا لسياسات واشنطن سواء عندما تتحفز للتدخل العنيف والسريع، أو عندما تتراجع عن أداء دورها الهام باعتبارها القوة العظمي الوحيدة في عالم اليوم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة