ليس من الصعب توقع الانطباعات حول سنة 2015، فهي لم تكن بداية الواقع المأسوي الذي تعيشه المنطقة العربية
ليس من الصعب توقع الانطباعات حول سنة 2015، فهي لم تكن بداية الواقع المأسوي الذي تعيشه المنطقة العربية، بل كانت استمراراً لسنوات عجاف بدأت مع ظهور ما يسمى «الربيع العربي» الذي حمل اسم الربيع، فلم يكن له من اسمه نصيب، ولم تكن نسائمه عليلة شافية، بل كانت رياحاً سموماً أصابت تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية، فهزت بنيانها، ولم تبق دولة في المنطقة إلا تأثرت بها وبآثارها السلبية.
ما تتم قراءته اليوم ليس نتيجة سنة مضت، بل هو نتيجة أكثر من عقد من الزمن، وربما يمتد إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ثم وراثة روسيا له، ومحاولاتها العودة إلى المسرح الدولي قوة مؤثرة عظمى، وهذا الصراع الدولي على الهيمنة وعلى المحاصصة احتاج إلى أرض تمهد له، فكانت الأرض العربية هي المسرح، ففي صراع الحضارات ونهاية التاريخ قرر منظّرو السياسة العالمية أن العدوين الجديدين اللذين حلاّ محلّ الشيوعية هما الدولة الوطنية والإسلام، ولا بأس من سيناريوات تنال من الاثنين معاً.
لا تمكن قراءة ما يجري اليوم على الساحة العربية بمعزل من التطورات التي جرت منذ عقود في المنطقة العربية وساعدت في جعل الأرض خصبة وجاهزة لاستقبال الآراء والتيارات المستهجنة، وكان في مقدمها الغزو العراقي للكويت الذي كان فاتحة لتدخل دولي كبير في المنطقة.
إن ما يجري اليوم على الأرض من تدمير القدرات العربية في شكل ممنهج لم يكن وليد عام أو حركة، وإنما انتشر كالنار في المنطقة العربية باسم «الربيع العربي»، الذي لم يكن عفوياً، وإنما كانت الحركة دائبة على صنعه من قوى خارجية وأخرى داخليّة. وساعد في ذلك أن بعض الأنظمة العربية لم تكن عند مستوى آمال شعوبها، وأن بعضها الآخر بقي يدور في فلك القوى الإقليمية والعالمية!
كانت المنطقة جاهزة وممهدة لهجمة التيارات الدينية الإسلامية التي أعدت عدتها منذ تحوّل الحكم في إيران إلى الإسلاميين الذين شكلوا أقطاباً جديدة في المحيط الإقليمي. عدد لا بأس به من الدول العربية شهد نمواً مقبولاً ومطرداً قبل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وتخلص بعضها من المديونية، وصار يتعامل مع الفائض لتحقيق نمو، وإن كان هذا النمو غير دقيق بدرجة عالية لغياب الإحصاءات الدقيقة، إلا أنه كان ملحوظاً.
ومع الحرب على الإرهاب التي بدأت من أفغانستان و «القاعدة» وطالبان، بدأت حركة النمو تضعف شيئاً فشيئاً، ومع الدخول الأميركي المباشر في العراق انتقلت ساحة المعركة من الجوار إلى الأرض العربية، وصارت الدول العربية معنية أكثر ومتأثرة في شكل مباشر بموجة العنف، وحركة النزوح والهجرة والتهجير. لكن كل ما جرى لم يكن كافياً لإيقاف عجلة النمو في المنطقة العربية التي ساعد فيها وفي تحقيقها ارتفاع أسعار النفط عالمياً وارتفاع أسعار المواد الأولية والثروات الباطنية التي تنعم بها الأرض العربية. كما أن عدداً من الدول العربية قطع في العقود الماضية أشواطاً مهمة في مجال التعليم الجامعي والعالي، وصار لدى بعضها فائض في الأطباء والمهندسين، فضلاً عن المدرسين والمعلمين وخريجي التعليم التقني، الأمر الذي كان يعول عليه في نهضة وتنمية المنطقة كلها.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فوسط دوامة العنف التي كانت تضيق على المنطقة العربية، ظهرت فكرة «الفوضى الخلاقة» وأُلبِست ثوب الربيع، وساعد الجو العام في دخول هذا الربيع إلى المنطقة العربية بالتهليل والفرح، وما من أحدٍ كان يدرك ما ستؤول إليه الأمور.
خمس سنوات مرت على ظهور «الربيع العربي»، وحتى اليوم، لم ينته شيء على أرض الواقع، ولم تنعم أي دولة من «دول الربيع» بالربيع. وتجاوزت الخسائر الإجمالية لما حدث 800 بليون دولار، وهذا المبلغ يكفي لإنعاش قارة كاملة. فنحن أمام عنف أدى إلى انهيار بنى تحتية تم بناؤها على مدى عقود. وهذا التدمير الممنهج من كل الأطراف يزيد على نصف الكلفة الإجمالية لموجة العنف، إذ زادت كلفة تدمير البنية التحتية على 461 بليون دولار، ووصلت الخسائر الملحوظة في الناتج المحلي إلى 289 بليون دولار، فيما أدت الحرب إلى نفور رؤوس الأموال من المنطقة، فسبب ذلك انهيارات وصلت إلى 35 بليون دولار في هذا القطاع، وخسرت المنطقة أكثر من 103 ملايين سائح، واقترب عدد القتلى والمصابين من ضحايا العنف وما يسمى «الربيع العربي» من مليون ونصف المليون وفقاً لإحصاءات «المنتدى الاستراتيجي العربي».
هذا الرقم الإجمالي. أما الأرقام التفصيلية فهي تقريبية ومرشحة للزيادة مع استمرار موجة العنف، وانعدام التوصل إلى حلّ سياسي، وعدم وجود رغبة دولية جادة في إنهاء الأزمة. فنحن نرى على المستوى الدولي ما يسمى «إدارة الأزمة»، وكل الدول الفاعلة والمؤثرة تعمل على إدارة الأزمة، وإدارتها تعني إدامتها إلى مرحلة مقبلة مجهولة النهايات، وما يؤكد ذلك التدخل الدولي في التفاصيل، ودخول الدول العظمى على ساحة المعركة للتمكن من إدارة الأزمة وإدامتها أكثر وقت ممكن، فالتدخل الروسي في سورية شكل حافزاً لأعضاء الحلف الذي شكلته الولايات المتحدة لزيادة فعالية هذا الحلف، وبدأت زيادة قدرات كل حلف من الأحلاف، وإرسال القطع البحرية، وتسلل القوات البرية إلى الأرض بمجموعات صغيرة لا تلبث أن تزيد. وهذا التدخل التدرجي غير الحاسم في ليبيا وسورية والعراق سيطيل عمر الأزمة، بغض النظر عن نتائجها، التي لن تكون في مصلحة البلدان والشعوب. فبعد كل هذه السنوات، ها هو العراق لم ينعم بما كان يريد، وها هو يدخل مجدداً في أتون العنف والإرهاب، ليصبح قطعة جديدة من رقعة اللعب في «الربيع العربي».
غير أن هذه السنة شهدت كذلك تشكيل التحالف العربي الذي قاد «عاصفة الحزم» ومعركة إعادة الأمل في اليمن، بعد أن حاول الحوثيون الانقضاض على الشرعية في اليمن ونقله من الحاضنة العربية إلى حضن إيران التي تحاول استثمار ما حصدته في لوزان من اتفاق مع القوى العظمى على برنامجها النووي، وتوسيع امتدادها الإقليمي بعد أن صارت تتغنى بسيطرتها على أربع عواصم عربية.
الحرب في اليمن لم تكن اختياراً لدول التحالف العربي، بل ضرورة أخلاقية أملتها المخاطر التي باتت تحيط بالأمن القومي العربي، وتحملت دول التحالف في هذه الحرب أعباء كبيرة، وقدمت كوكبة من أبنائها الذين استشهدوا دفاعاً عن اليمن وعروبته.
التحالف العربي تبعه «التحالف الإسلامي» الذي أعلنته المملكة العربية السعودية في تعزيز الدور العربي في حل أزمات المنطقة. وإذا كان من المبكر الحكم على هذا التحالف وما سيتمكن من القيام به، فإن مجرد التفكير به وإعلانه يدفع إلى التفاؤل بأن هناك من اختار ألا يبقى متفرجاً، وأن يبادر إلى تحرك ما.
على أعتاب العام الجديد، ليس لنا إلا أن نأمل بأن تشكل التحركات الأخيرة بارقة خير وسلام للمنطقة، وأن نستقبل السنة الجديدة بقدر من التفاؤل والأمل. فهل تكون سنة 2016 على مستوى أحلامنا؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن بجريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة