لم تهدأ بعد الأعاصير التي ضربت العالم العربي منذ خمس سنوات، ففي مثل هذه الأيام من 2010، انطلقت الشرارات الأولى لثورات "الربيع العربي".
لم تهدأ بعد الأعاصير التي ضربت العالم العربي منذ خمس سنوات، ففي مثل هذه الأيام من العام 2010، انطلقت الشرارات الأولى، لما سيسمى ثورات "الربيع العربي"، فعمّت بمطلع العام 2011 دول تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وكان لها ارتداداتها، الضعيفة أو القوية، في دول أخرى كالجزائر والسودان والبحرين، كما كان لها أصداء متأخرة في حراكات مدنية متنوعة، في العراق ولبنان والمغرب والأردن، وحتى في أراضي السلطة الفلسطينية.
منذ ذلك الحين، تُمتحن الثقافة العربية وأدواتها ولغاتها وتعبيراتها، في صلتها بالواقع والوقائع، وفي جدارتها كمرآة لحال المجتمعات وتطلعاتها. وكشف هذا الامتحان عن هوة واسعة بين أوضاع المجتمعات العربية وآلامها ووجدانها من ناحية، وبين توجهات الثقافة العربية وخطابها السائد من ناحية ثانية؛ فجلّ المؤسسات الثقافية، ومعظم الرموز الثقافية المهيمنة والمتصدرة، شهرةً ونفوذاً وتأثيراً، أظهرت غربة عميقة عن غالبية السكان وهمومهم ومزاجهم ولغتهم، وكشفت صدمة "الربيع العربي" بالأخص الهوة القائمة بين جيل الشباب والثقافة السائدة، والمكرسة بوصفها الثقافة المقبولة من النخب الاجتماعية كما من السلطات السياسية القائمة، فكان للاضطراب هذا، الذي أفضى إلى حروب متطاولة حتى اليوم، أن فضح مدى الانفصال المؤذي بين مصادر إنتاج الثقافة وبين حاجات ورغبات عموم المواطنين.
بهذا المعنى، ومنذ خمس سنوات ليس للثقافة العربية سؤال محوري، أو وجهة أساسية، خارج هذا الامتحان العميق والمصيري، خصوصاً بعد انفضاح هزال نتائج المقارعة الثقافية العربية لظواهر التطرف الديني والدعوات الظلامية والعنيفة التي نشأت عليها تنظيمات كـ"داعش" و"القاعدة" وأخواتها، وبدت الثقافة العربية أمام انحلال الأنظمة الفاسدة والمستبدة، مشبوهة في صمتها أو تواطئها أو حتى في تداخلها العضوي معها، ومشلولة وخاوية أمام تحدي الفكر الإرهابي والتكفيري، وبدا أن كل الجهد "التنويري" الذي ادعته الثقافة الحداثوية، منذ أواسط الثمانينات، بعد انتشار الجماعات الأصولية في الربوع العربية، لم يؤت سوى بالضوضاء الخالية من المعنى.
ليس صدفة والحال هكذا، أن نجد حفلاً موسيقيًّا برعاية النظام السوري في دار الأوبرا بدمشق، في لحظة اختناق مئات الأطفال بالأسلحة الكيماوية، على مبعدة كيلومترين أو ثلاثة، هذا المشهد، يمكن إيراد العشرات مثله في بلدان عربية أخرى، وهو لا يدل على انقطاع الثقافة العربية عن أرضها ومجتمعاتها فقط ، بل على انعدام الصلة بوظيفة الثقافة الأصلية، وعن معضلة أخلاقية مخزية وصعبة، قد تمر عقود طويلة قبل تجاوز سمومها، وأثارها الضارة.
عامنا هذا الذي ينصرم، يشكل الامتداد الطبيعي للأعوام القليلة السابقة، كان زمناً استثنائيًّا في علاماته، المتزامنة مع انقلاب الثورات إلى حروب، أو تحولها إلى انقلابات وثورات مضادة، أو انسحاقها حتى وطأة إما الفوضى والإرهاب والتدخلات الخارجية وإما عسف النظام القائم ووحشيته، وفي أي حال، بدا عام 2015 وداعاً مريراً لـ"الربيع العربي"، وابتداء لعهد مجهول الملامح.
القاهرة والثقة المفقودة
ففي القاهرة، عاصمة الصناعة الثقافية الثقيلة، لم تتعاف بعد السينما، بل إن المنحى "الثوري" الذي بشرت به شرائط عامي 2011 و2012 في مضمونها الاحتجاجي وفي مادتها الوثائقية والميدانية وفي روحها المتحررة والغاضبة والجريئة، تراجع وأفل تدريجيًّا لتعود الصناعة السينمائية إلى سابق عهدها من شروط وكتمان ومداورة وخوف غريزي ومنحى استهلاكي تسويقي وترفيهي لا يخلو من الخفة التسليعية، ومقيد بمضبطة "أخلاقية" تراعي حساسية السلطات الجديدة وقلقها.
وعلى مثال السينما، لم تتعاف بعد علاقة الدولة ووزارة الثقافة مع المثقفين الناشطين والبارزين، الذين وإن كانوا رأس الحربة في معارضة "الإخوان المسلمين"، إلا أنهم وجدوا في عودة العقلية البيروقراطية، نكوصاً عن طموحهم بتحرير الحياة الثقافية من الوصاية الرسمية.
هذا ما جعل الثقافة المصرية تزدهر على المستوى الفردي، لا في القطاعات والمؤسسات، فالبارز اليوم هو استمرار الاندفاعة التي عرفتها الرواية المصرية في السنوات الأخيرة، ولا تزال هي الأكثر كمًّا، على الرغم من أنها خسرت الاحتكار النوعي والمميز منها، فالجوائز العربية العديدة التي تُمنح لفن الرواية، باتت تذهب إلى روائيين من اليمن وتونس وسوريا ولبنان والسعودية أكثر مما تُمنح لروائيين مصريين، والروائيون الجدد الذي برزوا في السنوات الأخيرة مثل عماد فؤاد وهشام الخشن وأشرف الخمايسي ومنى الشيمي ومنصورة عز الدين وأحمد مراد ومكاوي سعيد؛ تؤكد كتاباتهم على قوة النص الروائي المصري تجريباً وجدة.
بيروت المفارقات
على حافة البركان المنفجر بحممه المتطايرة إلى أنحاء العالم.. وعلى مقربة من الجنون الدموي، الذي يزرع الرعب حتى في قلب العواصم البعيدة.. هنا، عند خط الزلازل وتصدعاته المهلكة، تقع بيروت. المدينة التي خبرت هي أيضاً عقوداً من الاضطراب والحروب والعنف.
هذه المدينة، المجبولة غريزيًّا على صنع يوميات ثقافية، كشرط لعيشها وتنفسها ونومها واستيقاظها، لطالما يصح القول فيها أنها منتهزة الفرص، فما أن تأتيها هدنة أو مدة من الهدوء أو مجرد فترة من السلم البارد، حتى تنتهزها للخروج عن مألوفها، فتشرع في ابتكار حياة من أفكار وأعمال وحركات واقتراحات في الثقافة والفنون.
الهدنة الأهلية الممتدة منذ العام 2008، التي لم تخلُ من توتر سياسي خطر، سنحت لوهم الاستتباب على شبهة السلم، وهذا ما كان كافياً لتتراكم، طوال السنوات القليلة المنصرمة، تجارب واختبارات وإنجازات، فردية وجماعية، في مساحة الثقافة و"مصانعها".
ظهر نتاج هذا التراكم في العام 2015، ليس في كثافة الأعمال أو النشاطات وحسب، لكن في مؤسسيتها ورسوخها، وسريان أثرها اليومي، فما كان "محاولة" أو "تجربة" بات برنامجاً دائماً يسجل حضوره في مواقيت معلومة، مربياً جمهوره أو مثبتاً مكانه..
شهد هذا العام البيروتي، نكسة في الصحافة الثقافية المحترفة، أوقفت جريدة "المستقبل" ملحق "نوافذ"، الذي قدم طوال 16 عاماً توليفة صحافية وكتابية في ظواهر المجتمع والفكر والسياسة والأدب والفنون وأساليب العيش والعمارة.. قلما عرفتها الصحافة العربية. فكان توقفه مفاجأة أثارت ردود فعل واسعة، عبّرت عن تشاؤمها إزاء مستقبل الصحافة المكتوبة، وهذا ما تجدد مع اضطرار جريدة "النهار" أعرق الصحف اللبنانية إلى إغلاق ملحقها الثقافي المميز، الذي لعب أدواراً نقدية شديدة التأثير على الحياة الفنية والأدبية ببيروت.
مقابل هذه الانتكاسة، عرفت المدينة العودة الزاهية لمتحف سرسق بعد توسعته وتحديثه وتحويله إلى مركز ثقافي متعدد النشاطات، كذلك كان مهرجان "أشغال داخلية 7" هو الأضخم برمجة ومشاركين وتعدداً في أعماله ومسارحه واهتماماته، يضاف إلى هذا، النشاط النوعي لمركز بيروت للفن الذي يختص بتقديم الفنون التجهيزية والفيديو آرت والاهتمامات والأنواع المشابهة، كما بات مركز بيروت للمعارض (البيال) مرجعاً للمعارض الكبرى للفن التشكيلي، بعدما كانت العاصمة تفتقر إلى هكذا مركز حيوي ومرجعي، كما توطد هذا العام مهرجان فنون الشارع، ومهرجان الرقص المعاصر.
التغريبة السورية
هذا العام أيضاً هو زمن التراجيديا السورية، عام التغريبة الكبرى والهجرة المأسوية والمروعة، ولأن الشعب السوري لم يمت بعد، فثقافته لا تزال حيّة.. هناك في مهاجرها الجديدة، في أماكن غربتها الموحشة، وعلى الأرجح، هي أولاً هناك في اسطنبول، التي يمكن وصفها بـ"عاصمة اللجوء السوري"، كما هي على أرصفة باريس وفي بعض بيروت، وهناك في الملاجئ الألمانية ومخيمات المهاجرين، وعلى شواطئ الهروب ومنافذ الحدود.
أفضل ما أتت به الكارثة السورية، هو هذا الفيض من النثر اليومي، من كتابات الذاكرة والسيرة والتجارب الواقعية، الراهنة أو التي كانت مخزونة من زمن جمهورية الصمت والخوف والأبد، فهذا العام كما السنوات القليلة الماضية، كان التدوين السوري الشخصي والحميم والاعترافي هو "الرواية" العربية الأروع والأكثر حقيقية من الحقيقة، إذ بغتة انكسر صمت نصف قرن وبدأ السوريون بالسرد، بالكتابة، لا من أجل "الأدب"، بل ضد الأدب أصلاً، كتابة حرة لما حدث ويحدث ولما كانت عليه حياتهم من مذلة الصمت القسري تحت حكم "البعث"، يكفي أن نقرأ كل تلك الشهادات التي كتبتها النسوة الهاربات من إجرام المخابرات، ومن إجرام "داعش"، أن نقرأ تجارب المعتقلين المهولة، أن نقرأ يوميات الهجرة بحراً أو عبر السهوب الأوروبية.. ما لا يُحصى من مذكرات ومرويات شخصية. هذا كله إضافة نوعية إلى إرث الثقافة بوصفها مخزن الذاكرة الجمعية ومستودعها وضميرها. وعليها قد يستطيع السوريون تأليف "هوية" معلنة ومدونة، وبها يستطيعون المراجعة والمحاسبة وتعريف الذات. بل بها تبدأ لغتهم الجديدة.
سينطوي العام 2015، من دون انصرام. فما بدأ قبل خمس سنوات وعصف في منظومة حياتنا لم ولن ينتهي قريباً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة