تنطبق مقولة «الثورة تأكل أبناءها» بصورة جلية على مآل أعضاء القيادة الجماعية للثورة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي
تنطبق مقولة «الثورة تأكل أبناءها» بصورة جلية على مآل أعضاء القيادة الجماعية للثورة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، فمن بين خمسة زعماء انتهى ثلاثة إلى مصائر مأسوية، حيث اعتقل الرئيس الأسبق أحمد بن بلة ووضع تحت الإقامة الجبرية سنوات طويلة بعد إطاحة نظامه من وزير دفاعه العقيد هواري بومدين، واختار محمد بوضياف حياة المنفى في المغرب، ثم عاد ليترأس المرحلة الانتقالية بعد استقالة الشاذلي بن جديد، لكن لم يدُرْ في خلده أنه ذاهب لملاقاة الموت في عملية اغتيال نُقلت مباشرة على الشاشة حين كان يترأس مهرجاناً خطابياً، وأخفقت بذلك مساعي الإتيان برئيس جزائري يمثل الشرعية الثورية في حركة المقاومة. لكن رفيقه حسين آيت أحمد كان أول من تعرض للاعتقال وصدر حكم بإعدامه في السنوات الأولى لاستقلال الجزائر، لأنه جاهر برؤية مغايرة استندت إلى خيار التعددية الحزبية والسياسية، في وقت لم يكن فيه صوت يعلو على سلطة الحزب الوحيد الحاكم.
من المفارقات أن محامين مغاربة سيؤازرون حسين آيت أحمد، كما فعلت جهات رسمية، إبان اختطاف الطائرة المغربية التي كانت تقل زعماء الثورة الجزائرية الخمسة من الرباط إلى تونس. وأقرت السلطات الفرنسية بضلوعها في عملية كثيراً ما وصفت بأنها كانت «إرهاب الثورة الجزائرية»، فقد كان هذا التوصيف ساري المفعول في كل المحاكمات التي طاولت حركات المقاومة ضد الاستعمار.
بعد الإفراج عنه، غادر آيت أحمد إلى حياة المنفى، ولم يعد إلى الجزائر إلا بعد انعطافها في اتجاه نوع من التعددية وإلغاء احتكار جبهة التحرير وتكريس خيار اقتصاد السوق، على أنقاض ما كان يوصف بثورات الإصلاح الزراعي وتأميم المنشآت وهيمنة القطاع العام اقتصادياً وسياسياً. وحين لاح له بريق أمل جدد شرايين جبهة القوى الديموقراطية كحزب سياسي معارض، يتبنى الدفاع عن الهوية الأمازيغية في نطاق التعددية الثقافية، ثم خاض تجربة المنافسة على رئاسيات العام 1999، قبل انسحابه واختياره الانزواء إلى الظل.
كما حافظت شخصيات جزائرية من جيل الثورة على صلات الحوار مع شركائها المغاربة، يوم كانت حدود البلدين مفتوحة أمام تنقل الأسلحة والرجال لدعم الثورة الجزائرية. واهتم نظراؤهم المغاربة من مدرسة انصهار وحدة المعركة قبل الاستقلال، بصون هذا الموروث الذي لم تؤثر فيه فترات القطيعة التي اجتازتها العلاقات بين البلدين الجارين. لكن ذلك لم يتجاوز التعبير عن النوايا في مقابل ركام الخلافات التي زاد منسوبها إلى درجة باتت تحجب الرؤية.
وضمن أهم المبادرات والتجارب الوفاقية التي كان يعوّل عليها، التأم أكثر من طبعة للمؤتمر المغاربي الذي كانت استضافته مدينة طنجة المغربية، بهدف الرغبة في إحياء التضامن الذي كان سائداً. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن فترة الوفاق المغربي- الجزائري تميزت بتولي الأمين العام لـ «جبهة التحرير» الجزائرية محمد مهري منصب سفير لبلاده في الرباط، ما قلص حجم تلك الخلافات، لولا أن السياسات العربية ترتبط بالأشخاص، وتتغير حين يغادرون مسؤولياتهم أو يغيبهم الموت.
غير أن حسين آيت أحمد الذي شارك في أكثر التظاهرات الحزبية في المغرب، خصوصاً تلك التي كان يؤطرها «الاتحاد الاشتراكي» وفصائل الحركة الوطنية، حافظ على رابطة خاصة مع المغرب، ولم يندفع تحت أي تأثير في اتجاه تصعيد الخلافات بين البلدين الجارين، وظل على قناعة بأن في الإمكان دائماً توقع مصالحة تاريخية بين بلاده والمغرب. وكان يؤمن بأن بناء اتحاد مغاربي يضمن لمكونات الهوية المغاربية كافة، من عرب وأمازيغ، المساهمة في بناء معركة الاستقلال والوحدة، كفيل باستيعاب الخلافات السياسية، مهما بلغت ذروتها.
أخفق جيل الثورة والمقاومة ضد الاستعمار في كل من الجزائر والمغرب في ترجمة الآمال الكبرى في بناء استقلال أكثر انفتاحاً على جواره الجغرافي الأقرب. وانسحب الأمر ذاته على المنطقة المغاربية برمتها. فقد كانت خلافات النظم في خياراتها الأيديولوجية في مقدم أسباب الصراع الذي لم يترك أي وسيلة إلا واستخدمها. أما وقد انهارت حرب الأيديولوجيات بعد سقوط جدار برلين والمعسكر الشرقي، فلم يبق من مبرر أمام استمرار جدارات نفسية وسياسية.
وإذ تلوذ الأجيال الجديدة إلى الاحتفاء برموز ذكريات الماضي التي كانت تقفز فوق الحدود والحواجز، يصبح طبيعياً التساؤل عن قدرة هذه الأجيال على تخطي التركة الثقيلة. ولعل أقسى ما تقدمه الصورة هي أن جيلاً كاملاً من المغاربة والجزائريين فتح عيونه، ولم ير سوى حواجز الحدود البرية المغلقة، ولم يعاين سوى أنماط الصراعات. غير أن من صميم مسؤولياته أن يتخلص مما لم يكن له أي يد في صنعه. ذاك بعض من رهانات المغرب والجزائر وكل منطقة الشمال الأفريقي التي يأسرها ماضٍ ليست كل صفحاته مشرقة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة