ما بين التشدد الديني والتطرف القومي والعنصري بات التعايش مهدَّدًا في الفضاء الجيو- ثقافي المتوسطي وموجة الإرهاب تعرف تمدُّدًا غير مسبوق
لا ينقسم العالم إلى أقاليم ونظم ومركبات أمنية إقليمية على أسس سياسية وأمنية فقط، بل ينقسم أيضا حسب تميز وتنوع الخصائص الثقافية في مناطق جغرافية معينة إلى ما يسمى بالفضاءات الجيو- ثقافية (Geocultural spaces) والتي تعرف بمميزاتها الثقافية المتجانسة أو حتى غير المتجانسة بالضرورة ضمن حيز جغرافي مترابط، إذ يمكن أن يحتوي الفضاء الثقافي الواحد على سمات ثقافية متنوعة وحتى متناقضة بشكل حاد، وبذلك يختلف هذا المفهوم عن مفهوم الكتلة الحضارية الذي يشير إلى وحدات ذات انتماء حضاري مشترك مهما اختلف انتماؤها الجغرافي، ويشكل حوض المتوسط بضفتيه الجنوبية والشمالية مثالًا حيًّا على المقصود بالفضاء الجيو- ثقافي الذي ذكرته سابقًا، فرغم الروابط الجغرافية الوطيدة بين ضفتيه فهو أحد أكثر الفضاءات الثقافية تنوعًا وتناقضًا في نفس الوقت، فضفته الشمالية ذات انتماء غربي مسيحي، وضفته الجنوبية ذات انتماء عربي إسلامي، مع وجود الكيان الصهيوني بخلفياته اليهودية التوراتية كجسم دخيل في قلب العالم العربي. وإذا دققنا في الخريطة الثقافية للمنطقة لوجدنا مزيجًا من لغات وديانات وأعراق تشترك في العيش على فضاء جيو- ثقافي واحد، ففي الضفة الشمالية تتجاور دول ذات لغات مختلفة من البرتغالية والإسبانية والفرنسية والإيطالية والكرواتية واليونانية والسلوفينية والألبانية والمونتينيغرية والبوسنية والتركية إضافة إلى اللغة العربية في جنوب المتوسط، وتختلف دينيًّا بين الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلام واليهودية، وعرقيًّا بين الأجناس الأوروبية والسلافية والتركية والعربية وعناصر أخرى أمازيغية وكردية ويهودية وغيرها، وقد كان هذا الفضاء الجيو- ثقافي موطنًا لحضارات متعددة بعضها ساد العالم المعروف آنذاك مثل الحضارة الرومانية والعربية الإسلامية وحضارات أخرى عريقة كالإغريقية والفينيقية والقرطاجية والبيزنطية والعثمانية.
في ظل هذا الفضاء الجيو- ثقافي المتميز عاشت شعوب المنطقة بين مد التعايش وجزر التنافر، بين صفحات مشرقة من التعاون والتلاقح الثقافي وصفحات قاتمة من التنازع والتحارب والقمع الثقافي والفكري والحضاري، فمن عمق التاريخ يمْثُل أمامنا الانفتاح المقدوني على اليونان القديمة بعد القضاء على نظام الدولة المدينة وعلى الجزر المتوسطية وضفاف الإسكندرية، معلنًا بداية العصر الهيلينيستي الذي تميز بالانفتاح على الآخر ونشر قيم المساواة بين البشر والعالمية مع انتشار الفكر الرواقي الذي يناقض الفكر المحلي الضيق والعنصري لدويلات المدينة اليونانية، وحتى الإمبراطورية الرومانية القوية لم يكن أمامها إلا أن تخضع لسُنة التأثر الثقافي بالآخر، فبعد غزوها لليونان القديمة تأثرت بموروثها الفلسفي والثقافي والأدبي والديني واللغوي والعمراني فكانت من المرات النادرة تاريخيًّا التي يتأثر فيها الغالب بالمغلوب، وبعد انتشار الإسلام سطعت صفحة أخرى من التعايش والرقي عندما كان الخليفة المأمون يقايض أسرى الروم بأمهات المؤلفات الفلسفية والطبية اليونانية واللاتينية لترجمتها والاستفادة منها، وظهرت بفضل ذلك التواصل الحضاري الفلسفة عند المسلمين على خطى أفلاطون وأرسطو وبخصوصيات إسلامية، ووصل الأمر بابن رشد لأن يكون الشارح الأعظم الذي عرف الغرب عن طريقه وفهم فلسفة أرسطو، وفي الأندلس تعايش المسلمون واليهود والمسيحيون على حد سواء، وأخذ الغرب من المسلمين علومهم وعاداتهم وأصبحت اللغة العربية لغة العلم والتحضر، وفي المقابل وبعد الغزو النورماني لجزيرة صقلية وإنهاء الحكم الإسلامي فيها والذي دام أكثر من قرنين، احترم النورمان الأوائل (خصوصا في عهد الملكين روجر الأول والثاني) المسلمين هناك وعاداتهم وشعائرهم وقرّبوا العلماء منهم ورفعوا قدرهم، وربما لا يعلم الكثيرون أن العلامة "الإدريسي" واضع خريطة العالم قد قام بذلك في بلاط الملك النورماني "روجر الثاني" الذي كان محبًّا للعلم والمعرفة، فمنحه المال والدعم الكافيين لتجسيد فكرته.
في حين سادت محطات الصراع المؤلمة على مدى كبير من تاريخ الفضاء الجيو- ثقافي المتوسطي، فها هي ذي جيوش "حنبعل" القائد القرطاجي تنحر 50 ألف روماني دفعة واحدة في معركة "كاناي" الدموية، وتنتقم روما بتدمير حضارة قرطاجة وتركها أثرًا بعد عين كأنها لم تكن يومًا جوهرة حضارات جنوب المتوسط، مئات الآلاف من جيوش الفرنجة الصليبيين القادمين من فرنسا وإسبانيا والإمارات الإيطالية ومالطا وقبرص وغيرها يشنّون حربهم الصليبية المقدسة على المشرق العربي، محاكم التفتيش الإسبانية تنكّل بآلاف المسلمين والموريسكيين وتبتكر أنواعًا من التعذيب لا مثيل لها تاريخيًّا، وباسم الحضارة ونقل الرسالة الحضارية تبدأ الحركة الاستعمارية من شمال المتوسط نحو جنوبه، هذه الحركة التي تمت باسم الحضارة والتمدن تعد امتدادًا لتقليد ثقافي غربي ساد بالخصوص في شمال المتوسط، حيث دأبت كل من الحضارتين اليونانية والرومانية على تقسيم العالم إلى قسمين، العالم المتحضر (المتحضرون) الذي ينتمي إلى العِرق والتقليد الحضاري اليوناني أو الروماني، والعالم البربري (البرابرة) الذين يقعون خارج الدائرة الحضارية والعِرقية للحضارتين المذكورتين، ولا يزال الإرث التاريخي للمجازر والتنكيل والاستغلال يُلقي بظلاله على حاضر ومستقبل العلاقات بين دول الضفتين.
واليوم ما بين التشدد الديني والتطرف القومي والعنصري بات التعايش مهددًا في الفضاء الجيو- ثقافي المتوسطي، وموجة الإرهاب تعرف تمدُّدًا غير مسبوق في الضفة الجنوبية وتأثيرها ينتقل إلى الضفة الشمالية والعكس، فمئات الشباب الأوروبيين المجندين من طرف التنظيمات الإرهابية المختلفة المتقاتلة خصوصًا في سوريا، لا سيما في صفوف "داعش" يشكّلون وقودًا لحرب تستثير الكراهية وتعزز التنافر، ومع الدعاية الإعلامية المغرضة والقراءات السلبية للخلفية الإسلامية المنسوبة زورًا وبهتانًا إلى تلك التنظيمات المتشددة، بات الإسلام والمسلمون محل مغالطات وتجريم مما جعلهم ضحايا للإسلاموفوبيا المتنامية ولخطاب الكراهية لليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، فتشكلت صور إدراكية سلبية من كل طرف نحو الآخر، فالقابعون هناك في الشمال ينظرون إلى الجنوب كمصدر للتطرف والإرهاب القادم عبر البحر أو المستهدف للشباب الأوروبيين من أصول إسلامية وعربية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة، بينما يرى المتمركزون جنوبًا في الشمال رافدًا للتغريب والغزو الثقافي والكراهية والتمييز على أساس عرقي وديني وتاريخي وحضاري.
وما بين الجانبين بحر من الأمواج العاتية للخلفيات التاريخية والأحكام المسبقة والإدراكات السلبية، رغم ضرورة التعايش بحكم الروابط الجغرافية والتاريخية والاقتصادية بين الجانبين ومقتضيات السياسة والبراغماتية، ومتطلبات "التثاقف" (acculturation) الذي يشير إلى عملية التفاعل الإيجابي بين الثقافات المختلفة واستفادتها بعضها من بعض في إطار تعايشي على المستويين الجماعي والفردي، بعيدًا عن الهيمنة الثقافية أو ما يسمى أيضًا الإمبريالية الثقافية، فكلما ابتعدنا عن روح التثاقف في الفضاءات الجيو- ثقافية المعقدة مثل الفضاء المتوسطي، سادت أجواء التنافر وقلّت فرص التعايش، رغم الخطابات الرسمية التي تهوّن من ذلك، بينما يكذِّب الواقع ذلك في مستوى التعاملات والإدراكات الشعبية وغير الرسمية خصوصًا الإعلامية والحزبية منها، لتستمر معضلة التنافر التي يصعب تخفيفها، فما بالك بتجاوزها، وتستمر في المقابل حتمية التعايش على اعتبار أن الفضاء المتوسطي ورغم تاريخه المتذبذب بين فترات السلام والحروب وعدم الاستقرار، يبقى مجالًا للتفاعل الحضاري بحكم تنوعه الذي تميز به منذ استقرار أولى الجماعات البشرية به وتأسيسها لحضاراتها وهوياتها المتميزة وتعاملها التجاري والاقتصادي والثقافي في ما بينها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة