احتفل العالم بهما، بمولدهما وتذكرهما بكثير من الفرح النادر فى نفس المنطقة التى ولدا فيها.
احتفل العالم بهما، بمولدهما وتذكرهما بكثير من الفرح النادر فى نفس المنطقة التى ولدا فيها.. نفس البلدان التى شهدت الولادة الأولى للأديان السماوية التى جاءت لتعلن للكون أن هناك عدالة وحقا ومساواة ورحمة وكذلك تسامح. التسامح الكلمة السحرية التى نحن بحاجة لها اليوم أكثر من احتياجنا للماء...
فى الليلة التى فصلت المولدين، وهى ظاهرة يقال إنها لا تتكرر إلا كل 30 سنة أو أكثر، استقر البدر فى قلب السماء أنار ليل دمشق المظلم إلا ببقايا سحر هذه المدينة وعشق أهلها للحياة.. كان الجو يبدو بعيدا جدا عن أصوات القصف والدمار والموت المتنقل فى العربات !! دمشق حافظت على كثير من جمالها. اسألوا زوارها القادمين الراحلين سريعا عنها، لن تكون إجابتهم إلا«بأنها ساحرة حتى وهى حزينة اليوم !!.»..
***
فى دمشق القديمة كثرت التراتيل فى الكنائس القديمة واختلطت بأصوات أناشيد فى محبة الرسول.. الخشوع خيم على وجه المدينة القديم والحزين.. تبدو وكأن حيطانها تعيد ترديد تلك التراتيل والأناشيد.. وصوت رقيق للدفوف الناعمة فى الأيادى المحبة.. لا جمال يضاهى هذا الإبداع فى صف المتاجر الصغيرة المتخمة بإنتاج كله أو معظمه من أرض هذه البلدة الحبلى بالخير.. لايزال السورى يزرع وكلما أغلق مصنع بفعل هنا أو هناك عاد لينتقل إلى زاوية صغيرة هناك لينتج من جديد حتى لو كان بعض إنتاج.. مازالت الأرض تخزن الخير رغم آثار البارود والرصاص والشظايا الطائشة !!
.. كم هو جميل أن يختلط الحب بالحب.. كم هو نادر أن نبقى على بعض هذا الحب وأن نعيد التذكير، خشوعا فى ساعات الصباح الأول، بأن الدين محبة وليس دما وقتلا وتحريما ورعبا وحقدا واضطهادا وتعذيبا وعزلة للمرأة !!!
***
دمشق القديمة هى الأخرى تلملم جراحها كثيرا ومرارا.. ترفع بعضا من تراب هنا وتغسل الدم النقى على الطرقات بماء زهر البرتقال الذى يزهر رغم كل هذا العبث والجنون ويرص على العربات فى الطرقات المزدحمة ليشكل لوحة رائعة الجمال عندما يلتصق بالرمان.. يهمس لك القادم من بعيد كيف يستطيع السوريون أن يستمروا فى العمل والإنتاج والحب والزواج والفرح أيضا.. كيف يستطيعون وهم محاطون بالعبث المتلون بدرجات ألوان الدم.
لم تحمل الليلة الفاصلة فى هذا العام إلا الكثير من الرسائل التى أضاءها بدر دمشق اللامع.. قد تذكرنا بدور الدين فى الحياة وكيف أنه وفى مراحل تاريخية مختلفة تحول لأداة للسيطرة والحكم بدلا من أن يكون علاقة خاصة بين الإنسان وربه.. من يكون ربه وكيف يكون؟
***
فى تلك الليلة الساحرة، بقى القمر فى قلبها وراحت الأضواء تخبو شيئا فشيئا ربما لانقطاع التيار الكهربائى أو ربما للمحافظة على ما تبقى منه.. فى عتمة الليل بقيت دمشق «منورة» بقمرها.. وفى هدوء لا يشبهه هدوء احتفلت هى الأخرى بمولد النبيين. كيف لا وهى الحضن الدافئ لكل الأديان.. كيف لا والكنائس تحتضن المآذن دون تَصنّع ودون تكلف كما يحدث الآن فى الكثير من الأحيان حين يريد البعض أن يتجاهل الواقع القاسى للتمزق الذى تعيشه شعوبنا ومنطقتنا. هذا الواقع الذى كشف الكثير من عرينا وجهلنا وتعصبنا رغم تكرارنا المستمر أننا كنا متعايشين وكنا نتقبل الآخر إلا أن الأربع سنوات الماضية لم ترنا إلا كثيرا من التقسيم الدينى والعرقى والطائفى الذى لا يمكن أن يكون وليد اللحظة ولا يمكن إلا أن يكون جزءا لا يتجزأ من المرض المزمن الذى عشناه ولا نزال نعيشه ككابوس يحول ايامنا إلى كثير من الأحلام المزعجة..
لا تعيدوا رسم المئذنة الملاصقة للكنيسة لأنها أصبحت صورة ممجوجة رغم حسن نوايا الذين يرسلونها ويضعونها كشعار لهم على مواقعهم على شبكات التواصل الاجتماعى.. رغم ذلك علينا أن نفتح هذا الجرح ونعقمه بالعلم والحصانة الحقيقية والتسامح والمحبة، ثم ومن بعد كل ذلك نستطيع أن نربى جيلا جديدا جديرا بمثل هذه المدينة كثيرة الدفء.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة