بداية أقول إنني ضد الحكم بسجن أي كاتب أو مفكر لمجرد أنه عبر عن رأيه بطريقة لا ترضيني أو لا ترضي مؤسسات راسخة بما فيها الأزهر الشريف
بداية أقول إنني ضد الحكم بسجن أي كاتب أو مفكر لمجرد أنه عبر عن رأيه بطريقة لا ترضيني أو لا ترضي مؤسسات راسخة بما فيها الأزهر الشريف (الذي نزع عنه إسلام صفة الشرف).
هذه مقدمة ضرورية قبل الدخول في الموضوع الذي أرى أن الحكم السابق يفرض علينا مناقشته بموضوعية وعقلانية بعيدا عن الحكم في ذاته وبصرف النظر عن مواقفنا مع أو ضد إسلام البحيري.
فالقضية الأصلية هنا هي ما اصطُلِح عليه بـ "تجديد الخطاب الديني"، لكني أفضل أن يكون الحديث عن "تجديد الفكر الديني".
صحيح أن تجديد الخطاب مطلوب بشدة، لكن الاكتفاء به يعني أن الهدف هو "تحسين الصورة" وليس إصلاح الأصل، فتجديد الفكر هو المفتاح لتغيير الخطاب، كما أن البحث عن لغة خطاب جديدة دون الغوص في الفكر الخاطئ الذي ساعد علي انحراف لغة الخطاب لن يحقق الفائدة المطلوبة.
وأنا هنا أسلم بأن "اللغة هي وعاء الفكر" علي حد تعبير الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود، لكنه هو نفسه من كتب "تجديد الفكر العربي" ولم يقل "الخطاب العربي"، فنحن لا يجب أن نقف عند الوعاء، لأن ما بداخله مضت عليه السنوات بل والقرون وهو آسن لا يتحرك، فأصابه ما يصيب أي شيء من تآكل وأحيانا عفونة، ومع هذا مازلنا نقتاته دون إدراك لما قد يتسبب فيه من أمراض أو تسمم، نرى كثيرا من أعراضه الآن في أشكال عديدة أبسطها الجمود والتخلف الفكري الذي نعانيه، لكنه لا يقف عند ذلك بل أحيانا يعبر عن نفسه بصورة عنيفة نجدها الآن تجتاح العالم الإسلامي من شرقه لغربه، صحيح أننا نتوقف كثيرا عند الإرهاب المُمثل في داعش أو القاعدة، لكننا ننسى أو نتناسى عمليات التفجير الانتحارية في مساجد أو مدارس بين الأطفال والمدنيين الأبرياء، لمجرد اختلافهم في الفكر أو المذهب، وكلها تتم باسم الدين، فهذا الذي يقتل نفسه في مثل تلك العمليات هو بدون شك مخلص لقضيته ويقدم لها أغلى التضحيات وهي حياته نفسها... ونحن نركز كثيرا علي البعد الأمني لمنع مثل هذه الحوادث، وهو مطلوب، لكن الأهم هو دراسة الأفكار التي دفعته لذلك، لأنها هي القاتل الحقيقي... فالفكرة تقتل والكلمة تغتال، ولا أبالغ إذا قلت إنها قتلت منفذ تلك العملية الانتحارية قبل الآخرين، وإنه كان مجرد أداة في شبكة معقدة من عمليات التلقين والتطويع النفسي والبدني في خدمة قضية فاسدة.
ما هو مطلوب إذن هو نظرة فاحصة لبحث هذا الفكر الذي توارثناه وفيه الكثير الذي نعتز به ويمكن الاستناد إليه في عملية التجديد والتطوير ليواكب عصرنا الحالي، وفيه أيضا الكثير الذي يجب تنقيحه أو إسقاطه باعتباره تعبيرا عن عصور مضت، ولم يعد ملائما لما تتطلبه حياتنا من مفاهيم مختلفة.
وهنا أعود مرة أخري لإسلام البحيري... ليس في إطار الحكم الصادر ضده ولكن لتحليل الأسلوب الذي لجأ إليه في عملية الفحص التي قام بها، فبصرف النظر عن هذا الحكم، فإنني أعتقد أن طريقة إسلام في تناول المفاهيم والرموز الدينية لم تكن صحيحة، ليس لأنه بذلك يزدري الدين كما يقول معارضوه وينفيه هو، ولكن لأنه يضر بالقضية التي يتبناها ونؤيدها وهي تنقية الشوائب العالقة بالتراث الديني، السبب هنا ليس له علاقة بالدين في ذاته ولا باللغة أو الخطاب الديني بمعناه الضيق، ولكن بأسلوب الخطاب الإعلامي الموجه إلي الجماهير، فأنت عندما تدخل إلي الناس من باب هدم ما ترسخ لديهم من معتقدات، والإساءة لمن يحظى لديهم بالمكانة والاحترام، فإنك تفقد جزءا كبيرا من جمهورك المستهدف. صحيح أنه قد يجعلك نجما فضائيا ويحشد لك نسبة من التأييد لدي بعض الفئات التي تشاركك الرأي، لكنه لا يختلف بذلك عن الخطاب "العكاشي" في الحشد السياسي، ويسير في طريق خطابات التشويه والتخوين التي أصبحت طبيعة المرحلة في الإعلام المصري.
لكن عندما يتعلق الأمر بالدين ومفاهيمه ورموزه، فإن الأمر يصبح أكثر خطورة لأنه يمس عصبا حساسا لدي المتلقي الذي نشأ علي احترام يقترب من التقديس لتلك المفاهيم ورموزها، وأنت عندما تقتحم عليه عالمه الخاص بهذه القسوة والوحشية فإنه بالضرورة سيدافع عن "نسقه القيمي والفكري" بكل قوة، وسيطردك من عالمه بكل الأدوات التي يعرفها خبراء علم النفس والاتصالات من تعرّض انتقائي إلي إدراك أو تفسير انتقائي، وفي النهاية لن تصل لما تريد، وحتي لو سار معك في طريقك واستجاب لما تطرحه من أفكار مخالفة، فإنك في الحقيقة لم تقدم له منظومة قيمية أو فكرية بديلة يمكن أن يركن إليها أو يشعر داخلها بالأمان، وبالتالي يخرج تائها حائرا غاضبا ورافضا لكل ما حوله من ثوابت ومفاهيم، وبهذا تتحول عملية التجديد المطلوبة إلي معول للهدم وليس أداة للبناء.
وقد ذكر لي أحد الأصدقاء مرة أن أسلوب الصدمات الذي استخدمه إسلام البحيري أصبح مطلوبا بعد سنوات الركود الطويلة، والحقيقة أن الصدمة يمكن أن تكون مطلوبة أحيانا ولكن أن تستخدم بحساب دقيق بحيث لا تؤدي إلي نتيجة عكسية، ليس فقط لأنها تسببت في هياج المؤسسات الدينية ووقف برنامجه والحكم عليه بالسجن، فهذه كلها أمور يمكن أن تحدث دون أن تغير من تقديرنا له ولأسلوبه إن كان بالفعل صائبا، لكن المشكلة أنها تعطل الهدف الذي نسعى إليه جميعا، وهو تغيير بعض المفاهيم الفاسدة لدي أطياف كثيرة من المجتمع. فالمدخل لا يكون بالهدم وسب السابقين، مثال علي ذلك: فإن وصف الفقهاء الأربعة بالنصابين الأربعة، قد لا يكون قضية قانونية يُحكم فيها بالسجن، لكنها تعوق العمل الفكري الحقيقي والجاد للتنقيح المطلوب، لذلك فأي خطاب إلي الناس بشأن هذه القضايا يجب أن يبدأ وينتهي بالاحترام والتقدير لما رسخ في قناعاتهم منذ نعومة أظفارهم، قبل الدخول في المنطقة الشائكة لرفض تلك القناعات ونقد هؤلاء الرموز.
وإذا لم يكن هذا الاحترام نابعا من تقدير حقيقي لجهودهم واجتهاداتهم، فعلي الأقل لابد من اللجوء إليه احتراما للجمهور المُخاطب الذي يجب أن يكون تغييره هو الهدف وليس "عمل شو".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة