تسعى هذه السطور إلى التحريض على نقاشٍ ربما، عبر تسليط الضوء على الشرخ الذي أحدثه مقتل القنطار
اغتيل سمير القنطار في جرمانا، على مشارف الغوطة الشرقية. كان القنطار، على ما يُشاع، يدير من هناك مهمته الموكلة إليه من قبل الإيرانيين و»حزب الله»، لفتح جبهة الجولان السوري المُحتل. منذ عام ونصف العام رشح كلامٌ عن تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير الجولان» لتتولى مهمات فتح جبهة جديدة مع إسرائيل. لم نسمع عن أي اشتباك في الجولان. لكننا تحققنا من انخراطٍ واسع لمقاتلي «حزب الله» وميليشيات أخرى مُسيّرة من قبل إيران في قتال ممتد عبر الأراضي السورية، من محور القنيطرة في الجنوب إلى القلمون وريف دمشق إلى ريف حلب في الشمال.
لا ترمي هذه السطور بحال من الأحوال، إلى مناقشة أبعاد اغتيال القنطار. أُشبع اغتياله نقاشاً، شمل دلالات العملية في ظل تنسيقٍ علني بين الروس والإسرائيليين حول مصالح الطرفين الإستراتيجية في سورية، التي يبدو النظام فيها اليوم أضعف الحلقات في محور حلفائه.
تسعى هذه السطور إلى التحريض على نقاشٍ ربما، عبر تسليط الضوء على الشرخ الذي أحدثه مقتل القنطار بين من كانوا حتى ما قبل مقتله يعتقدون بأنهم ردموا جزءاً كبيراً من الهوة التي تفصل بينهم في ما يخص مفاهيم التحرر والمقاومة وأولويات النضال للخلاص من سنوات الجمر التي تسحقنا جميعاً. هوة كنا اعتقدنا، متسرعين ربما، بأننا تجاوزناها مع اندلاع الثورات في العالم العربي، وتحديداً مع الثورة السورية التي فجرت منذ أيامها الأولى التناقض بين خطاب التحرر من الاستبداد وحكم العائلة كأولوية تمهد لتحرير الأرض وبناء دولة قوية، وبين خطاب يهادن استبداد ما يعتبره دولة وطنية مُمانعة، بحجة أولوية تحرير الأرض.
قرّبت الثورة السورية شرائح واسعة من مُثقفين وناشطين ومواطنين، ليبراليين ويساريين، ذوي ميول إسلامية أو علمانيين، أو خارج أي اصطفاف سياسي أو إيديولوجي، من تبني خطاب يفكك مفهوم المُمانعة السائد في أدبيات النظام السوري وحلفائه، وينتصر لأولوية تهشيم دولة الاستبداد ومنظومتها. والحق أن جزءاً كبيراً من الفضل في هذا التقارب، يعود أولاً إلى جموع المنتفضين السوريين، الذين جاء معظمهم من المناطق الأكثر تهميشاً. عرّى هؤلاء بهتافاتهم العفوية، التي لم ينقصها أي بلاغةٍ أو تخصيص، وفي طور مبكر من الثورة السلمية، خطاب مُمانعة مُخاتلاً لطالما اعتاش عليه النظام السوري ووظّفه في قمع محكوميه. سبقت هذه الهتافات بوقت طويل عسكرة الثورة، وامتداد سرطانات التنظيمات الإسلامية المُتطرفة فيها. في تشييع فوج الشهداء الأول في مدنية دوما مطلع نيسان (ابريل) 2011، هتف المشيعون: «ابن الحرام، باع الجولان»، «يا ماهر ويا جبان... إبعت جنودك عالجولان». كانت الهتافات تنسف حِمل الممانعة الزائف الذي جثم على ظهور السوريين لتبرير قمعهم، وتقطع الطريق أمام بروباغندا النظام البائسة للتشويش على ثورة شعبية بوصفها مؤامرة صهيونية. لا شيء في سورية الأسد، بالنسبة إلى المانعين كان، ولا يزال، يستدعي انتفاضةً شعبية! لا قمع الحريات العامة، ولا غياب التعددية السياسية، ولا حتى سياسات نهب منظمة من قبل الطغمة الحاكمة والدوائر المقربة منها، أفقرت باضطراد عموم السوريين.
لكن على هؤلاء الهاتفين في دوما وغيرها، ومن انضم إليهم وناصرهم لاحقاً في عموم سورية، على اختلاف ما آلت إليه أحوالهم المأساوية الآن، أن يثبتوا في كل حين إخلاصهم للقضية الفلسطينية وعداءهم المبدئي لإسرائيل! كم من مرة طُلب منا تقديم إثباتات على ذلك؟
مع اغتيال القنطار في جرمانا، عادت الحمولات الإيديولوجية إلى البروز مجدداً. عاد التردد في تعرية خطاب الممانعة ليغلب على كلام أفراد ومثقفين وناشطين كانوا أقرب لخطاب الثورة. تناوب أفراد من هؤلاء، بالأخص في لبنان وفلسطين، على رثاء القنطار وتمجيده، وعلى تبني خطاب يفصل اغتياله عن دور موفديه إلى سورية في المقتلة هناك. كلمات القنطار، المُتاحة لكل مُطّلِع، في دعم نظام الأسد وفي شرعنة حربه على محكوميه، لم يكن لها أي اعتبارٍ عند من اختاروا العودة إلى تمجيده وتمجيد المقاومة التي يمثلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
القنطار لم يختر أن ينأى بنفسه عن السياسة في سورية، لم يختر العمل بعيداً من بروباغندا النظام، على العكس. على رغم ذلك كان يكفي معرفة هوية قاتليه، لتنزيهه عن كل شائبة، وللنكوص عن خطابٍ نقدي لمفاهيم المقاومة والممانعة في نسختها الحزب إلهية، الأسدية. والحق أن قتلته مجرمون محترفون، محتلون لأرضنا، خصومٌ لطموحاتنا في الحرية. فهل أبتهج لاغتيالهم القنطار؟ بالطبع لا، وقد استباحوا مجدداً أرضي، التي جعل نظاماً جمهورياً وراثياً من سمائها مستباحةً من قبلهم في كل حين. لي في جرمانا، أصدقاء ومعارف، كانوا ربما عرضةً للموت في ذات القصف ذلك اليوم. وكغيرهم من سوريين أبرياء، معرضين للموت في كل حين، أو يعانون في الشتات. لم يستفتهم أحد في قرارٍ إيراني بفتح جبهة مزعومة في الجولان اليوم وسط خراب البلاد المُعمم. كما لم يستفتهم نظامهم حين قرر أن السلام مع إسرائيل أصبح «خياراً استراتيجياً» عقب مؤتمر مدريد في مطلع التسعينات. ولم يستفتهم قبل ذلك وبعده حين فرض تغييب أي مقاومة مسلحة لاستعادة الجولان. لكنهم على رغم ذلك مطالبون برثاء القنطار، أو بتفهم تمجيده. وإن لم يفعلوا فهم عملاء للصهاينة أو الوهابية أو داعشيون، وتنويعات النعوت هنا لا تنتهي.
في نهاية 2015، يبدو المشهد في سورية قاتماً بغياب أفق لنهاية المقتلة. ماذا حققت إذاً هذه الثورات؟ أشياء قليلة ربما، لكنها عظيمة الأثر، منها أننا بدأنا بتحرير الكلام والمعنى من قبضة نظام مُستبد. المقاومة، هي ملك لنا، وهي عرضة للنقاش العام وللنقد وللتفكير. في خوضنا هذا لا نساوم على حقوقنا، لكننا لا نجعل منها مطية للفتك بنا. هكذا هتف، على طريقتهم، المتظاهرون في دوما وعربين وكفربطنا، المتاخمة لجرمانا، حيث كان القنطار مُقيماً، وحيث يصعب أن تصم الآذان عن صوت القصف الذي يحرق هذه البلدات المحاصرة، التي ما زالت تؤوي عشرات آلاف المدنيين، ليسوا كلهم نصرة ولا زهران علوش، لكنهم كلهم عرضة للقتل ببراميل النظام.
كشف اغتيال القنطار عن هشاشة مواقف أصدقاء ورفاق لنا، اعتقدنا بأننا نمضي معاً في عملية مراجعة جدية لمفاهيم كالمقاومة والممانعة استخدمها النظام وحلفاؤه لسحقنا وترهيبنا. كان المراد بالضبط تحرير هذه المفاهيم من مصادرة هؤلاء لها وليس التخلي عنها. من شأن نكوص هؤلاء الرفاق جعل هذه العملية أصعب وأكثر كلفة، ومنح النظام وحلفائه مزيداً من الوقت والشرعية لقمعنا باستخدام الحجج نفسها. هذا مُجرب. كنا نتوق فقط إلى التخلص مما جربناه مراراً، كنا نأمل بأن ينصفنا من عانوا من أسر المُحتلين، وأن يقفوا ضد أنظمة القمع، كنا سنصبح أقوى بهم. لم يحدث هذا مع القنطار وغيره. هذا مدعاة للأسى، لكنه ليس بحال مدعاة لليأس.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة