على الطبقة السياسية في مصر، أن تختار. فإما أن تعيد تنظيم الدولة بشكل جديد، أو تمنح التنظيم الفرصة لاستنساخ نفسه من جديد.
على الطبقة السياسية في مصر، ومن وعى في باقي البلدان العربية، أن تختار. فإما أن تعيد تنظيم الدولة بشكل جديد، أو تمنح تنظيم الدولة الإسلامية الفرصة لاستنساخ نفسه من جديد. إما منهج مختلف كليةً للنجاة أو البقاء على ما عليه الحال فالهلاك. الخيار واضح. إما تنظيم محترم لدولة جديدة يسعد فيها الجميع أو مستنسخات أخطر لتنظيم الدولة الإسلامية تهدد الجميع.
لا يجب أن نخدع أنفسنا عندما نرى تنظيم داعش وهو ينهار. لن نتنفس الصعداء عندما يُقضى عليه وإنما فقط عندما نقضي على الظروف التي فرخته وتستطيع أن تفرخ تنظيمات أخرى غيره في المستقبل يعرف المراجعون لتاريخ الإسلام الراديكالي أنها ستكون أشد فتكاً وأكثر توحشاً. الانتباه اليوم مركز كله تقريباً على المواجهات الدولية الكبرى الجارية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكنه سيتركز في الغد على السبب الأصيل وراء توحش هذا التنظيم وهو باختصار شديد سوء تنظيم الدولة المدنية العربية في كل المجالات. لن ينتهي الأصعب في المنطق بنهاية الحملات العسكرية الدولية والإقليمية والوطنية ضد داعش وإنما سيبدأ عندما تتسارع محاولات سد الفراغ الهائل الذي كشف عنه ظهور داعش في كل دول المنطقة تقريباً بلا استثناء مؤكداً فشل دولة الواقع التي أساءت تنظيم نفسها فأتاحت الفرصة لظهور وتوحش دولة الخيال التي طرحها تنظيم الدولة الإسلامية.
فلكل دولة في الواقع دولة بديلة في الخيال تنشأ عندما يكون الواقع مؤلماً. والواقع مؤلم جداً. فدولة الواقع في العالم العربي فشلت. وفشلها هو الذي استدعى ظهور دولة الخيال لتقدم نفسها على أنها طوق نجاة وحل ناجع وبديل مقدس. وبدلاً من أن تتعظ دولة الواقع من ظهور كل دول الخيال التي سبقت داعش فتعيد تنظيم أحوالها راحت تتركها تسوء وتتدهور. رفضت مراراً إعادة تنظيم نفسها وفتحت بنفسها الباب لكل ألوان المخاطر.
لو كانت دولة الواقع نجحت في بناء دولة مدنية ترعى المواطنة بحق. ولو كانت دافعت عن حقوق الإنسان وحمتها بدلاً من انتهاك حرماتها. ولو كانت قد ارتقت بالتعليم ووفرت للمواطنين خدمات ورواتب وحيزا عاما مليئا بالفرص لما كانت دولة الخيال قد تجرأت عليها وعلى رعاياها بالفكر الواهم أولاً ثم بالوعظ اللاهب ثانياً ثم بالسلاح والقوة أخيرا. إن دولة الخيال التي وعد بها تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات الشقيقة والصديقة له لم تكن إلا لتعويض عجز دول الواقع العربي عن أن تكون دولا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فالدولة في الكتب والتجارب الناجحة شيء وفي العالم العربي شيء آخر. الدولة تكوين مدني حديث ومشروع لا يتوقف عن التحديث. إنها مشروع تأسس على عدم قبول العودة للجاهلية أياً كانت صورتها، أو التأسيس على القبلية مهما تكن قوتها أو التسليم للطائفية مهما تكن جاذبيتها. فالدولة ماكينة صهر لا قهر.وساحة للمشاركة وليس للمناكفة. هذا ما يفترض أن تبدأ به وتستمر عليه. أن تثبت للناس أنها نعمة وليست نقمة وأنها نشأت لتعظم حرياتهم وتزيد سعادتهم. أما في منطقتنا فلم تقم دول الواقع بشيء من هذا. بعضها أشباه دول يملك فقط ماكياج الدولة وليس شخصية الدولة. وبعضها وإن كان عتيداً إلا أنها تتخبط وتقصر في أداء وظائفها.
وللخلاص من شبح عودة تنظيم دولة الخيال التي أقامها داعش فلا مفر من إعادة تنظيم دولة الواقع على أسس تجعلها ملكاً للجميع. المال العام فيها للجميع، يعلم الكل من أين يأتي وكم مقداره وأين ينفق وكيف يُحمى من الاختلاط بالمال الخاص. والسلطة فيها أيضاً للجميع، من حق كل من يرى في نفسه جدارة أن يترشح لها. لكن عليه بالمثل واجب التخلي عنها بعد مدة غير قابلة للتلاعب حتى لا يمل الناس منه وحتى لا يتسرب إلى نفسه غرور يظن بسببه أنه أسطورة لا تموت.
ولن تكون إعادة بناء دولة الواقع سهلة. فقد جرى تنظيم الدول العربية من المنشأ لتكون أملاكاً خاصة، المجال العام فيها تسيطر عليه أسر أو مهن أو طوائف. كما أنها اعتادت الإسراف في توظيف القوة الأمنية لتنظيم كافة شؤونها ما جعل قوات الأمن نفسها تشكو أحياناً من ثقل التبعة التي تتحملها ومن الكراهية التي تنالها من الناس. كما جعل باقي تشكيلات المجتمع وتنظيماته تشك من الأصل أنها تعيش في دولة. القوة الأمنية مطلوبة باليقين. لكنها إن لم تولد مقيدة بالقانون ولد الخوف معها. والخوف قد يدفع الناس إلى إظهار الطاعة للدولة إلا أنه يخفي وراءه كراهية واستياء. وهذا ما حدث في أكثر الدول العربية. الناس خافوها ولم يهابوها. ولهذا هجروها. إما هاجروا منها أو اغتربوا فيها لاجئين إلى الخيال وباعة الأوهام مثل داعش.
هذه الهجرة من الواقع المؤلم إلى الخلاص المتوهم تلقفها تنظيم الدولة الإسلامية مثلما تلقفتها قبله تنظيمات أخرى أغرت الناس بالاستظلال بخيال الدولة البديلة. وستظل تنظيمات شبيهة لداعش مرشحة للظهور في المستقبل تتلقف المحبطين ما لم تقم دولة الواقع بإعادة تنظيم نفسها كليةً. لكن دولة الواقع لا تدرك أهمية إعادة تنظيم هياكلها. فهي فقيرة في الرؤية جداً كما أنها مغرورة جداً. ما زالت تراهن على أنها على صواب مادامت القوى الكبرى تأتي دائماً لإنقاذها. وهذه مراهنة خطيرة. فالخارج مل منا كما أنه بدأ ينشغل عنا بمناطق وقضايا أخرى. لن نسلم في كل مرة تنكسر فيها الجرة. وما لم يتم إعادة تنظيم دولة الواقع على ثلاثة أسس هي الحرية للجميع والمال للجميع وحكم القانون على الجميع ستظل دائرة المخاطر تتسع. ستظهر دول خيال جديدة تبشر بها تنظيمات دينية أكثر تطرفاً تستعمل السلاح على نطاق أكثر بشاعة وترويعاً. ستجد أمامها مئات الآلاف من الشباب المحبط. شباب لم يجد دولة واقع منظمة تعطيه الأمل في وظيفة وزواج وسكن واحترام فبحث عن من يبيعه وهمأً يعوضه بؤس الواقع. إن تنظيم الدولة الإسلامية قرين نتاج عشوائية تنظيم الدولة العربية. والخيار واضح: فإما تنظيم جديد وجاد لدولة الواقع أو انتظار دولة خيال تطرح نسخة أسوأ من تنظيم الدولة الإسلامية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة