تحليل يرصد أسباب صعود التيارات اليمينية في أوروبا والتأثير على المجتمعات الأوروبية
استغلت الأحزاب اليمينية في أوروبا اعتداءات باريس، وإشكالية الهجرة واللاجئين وما أعقبها من هجمات إرهابية في عدة دول، ودفعتها لتحقيق مكاسب سياسية، وجعلت القارة العجوز باتت في قبضة اليمين، ما يعمق خللا هيكليا على المستوى السياسي والاجتماعي سيكون له تداعيات وخيمة على تماسك المجتمعات الأوروبية.
والعديد من العوامل السابقة على اعتداءات باريس واللاجئين كانت سطوع نجم اليمينيين في أوروبا، وحسب تقرير للمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية فإن أزمة اليورو المالية (2008) أسهمت في تسارع تنامي نفوذ اليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة.
دعم ذلك، انسحاب الحكومات من لعب دورها في إطار ما يعرف "بدولة الرفاه الأوروبي"، وارتباك وعدم نجاح واضح لسياسات التقشف والإصلاح الاقتصادي التي جرى اتباعها خلال السنوات الست الأخيرة.
وسجل الاتحاد الأوروبي في نهاية 2014، معدلات نمو اقتصادي لم تتجاوز 1.3% في دول الاتحاد، و0.8% بدول منطقة اليورو، فيما ظلت أزمة البطالة مزمنة بمعدل بلغ 11%، قفز إلى أكثر من 26% في اليونان، و24% في إسبانيا كنماذج على الدول الأكثر تضررًا اقتصاديًّا، وبلغت معدلات البطالة 5.1% في ألمانيا التي تعد من الدول الأقل تأثرًا بتبعات الأزمة المالية.
إشكالية الهجرة
جاءت المتغيرات السلبية، حسب التقرير، متوازية مع ارتفاع في معدلات الهجرة وموجات اللجوء الوافدة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وقد كشفت تقارير الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية أن أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين نجحوا في دخول الأراضي الأوروبية عام 2014، بلغت 200 ألف شخص، أغلبهم من المسلمين الوافدين من دول الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
فقد شهدت ألمانيا -على سبيل المثال- زيادة في عام 2014 في أعداد اللاجئين قدرت بـ 60% بالمقارنة مع العام السابق، حتى أنها أصبحت الوجهة الأولى على مستوى العالم لاستقبال اللاجئين، لتجعل أوروبا تتفوق على الولايات المتحدة في هذا الخصوص.
وتزايد أعداد الوافدين إلى أوروبا سواء عبر الطرق الشرعية أو غير الشرعية، يعد متغيرًا منطقيًّا للتداعي الاقتصادي والسياسي والأمني في كثير من نماذج ما يعرف بدول "الربيع العربي"، وتحديدًا في سوريا، وليبيا، إضافة للدول العربية والإسلامية ذات الأزمات الأمنية المتصاعدة مثل العراق وأفغانستان.
كما أسهمت زيادة معدلات الهجرة الوافدة في دعم مخاوف التحول الديموغرافي في أوروبا لصالح الجاليات المسلمة، ووفقًا لإحصاءات صدرت عن مركز "بيو" للأبحاث، فإن الإسلام يعد الدين الأسرع نموًّا في القارة الأوروبية؛ حيث بلغ تعداد المسلمين في أوروبا عام 2010، مع استثناء تركيا، حوالي 44 مليون نسمة.
ويلاحظ أنه رغم عدم تجاوز نسبة المسلمين من إجمالي تعداد السكان في أوروبا نسبة 4%، إلا أنهم بارزين ديموجرافيا في المدن الأوروبية الكبرى مثل باريس، بنسبة تتجاوز 10%، وفي ستوكهولم بنسبة 20%، وفي برمنجهام البريطانية بنسبة 22%.
الجبهة الفرنسية
ويضيف التقرير أن الأحزاب والقوى اليمينية حققت في السنوات القليلة الماضية تزايدًا واضحًا في شعبيتها، ما جعلها تحرز مكاسب انتخابية غير مسبوقة، سواء على المستوى الوطني أو الأوروبي، ومن أبرز الأمثلة على التفوق الانتخابي لليمين الأوروبي ما حققه حزب الجبهة الوطنية في فرنسا في الانتخابات المحلية التي أجريت العام الماضي ليحكم سيطرته على 11 مجلسًا محليًّا، ويشغل مقعدين في مجلس الشورى الفرنسي، كما أحرز 25% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو الماضي، متفوقًا على باقي الأحزاب الفرنسية.
ورغم الهجوم الشديد الذي تعرض له من اليمين واليسار الفرنسي في أعقاب أحداث باريس، فقد نجح في تحقيق المركز الثاني في الانتخابات المحلية التي عقدت في شهر مارس 2015؛ حيث حصل على حوالي 25% من الأصوات، مخيبًا توقعات استطلاعات الرأي بحصوله على 30% من الأصوات.
الاتجاه يمينًا لكسب الأصوات
شكل الصعود المتسارع لليمين المتطرف تحديًّا كبيرًا بالنسبة للأحزاب الأوروبية التي تشكل النخبة السياسية الحاكمة من اليسار واليمين.
ووظف هذا التيار عوامل استمرار التردي الاقتصادي والاجتماعي، والضغوط التي تمارسها مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ضمن عوامل أخرى، في تأكيد عدم أهلية استمرار النخبة الحزبية الأوروبية في القيادة.. استلزم ذلك، في المقابل، محاولة تلك النخبة في تجديد خطابها ودمج القضايا التي نجح اليمين المتطرف في توظيفها لاكتساب دعم الرأي العام.
فعلى المستوى الأوروبي، صوتت المجموعة المحافظة بزعامة المحافظين البريطانيين داخل البرلمان الأوروبي، لضم الأعضاء التابعين لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، ويعد من اليمين المتطرف.
وقد استفز ذلك التحرك حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي ترى في حزب "البديل"، عقبة سياسية كبرى، خاصة إثر توليه دور الواجهة السياسية لحركة "الأوروبيين القوميين ضد أسلمة الغرب"، المعروفة بـ"بيغيدا" التي أثارت جدلًا واسعًا في ألمانيا، وألهمت حركات مماثلة في عدة دول أوروبية بخروج مسيرات معادية لأنظمة الهجرة والجاليات المسلمة.
وتشير التوقعات إلى أن اليمين المتطرف الأوروبي في سبيله لتحقيق المزيد من المكاسب خلال موسم الانتخابات الذي تشهده الدول أوروبية هذا العام، ومن ثم فهو سيظل فاعلا سياسيًّا واجتماعيًّا، وتحديدًا فيما يتعلق بقضايا الهجرة، والأقليات، وحقوق الأفراد.
ويرتبط ذلك بأن سبل تعامل النخبة الحاكمة في أوروبا مع صعود اليمين المتطرف لا تظل محدودة، ومن ثم قاصرة عن مواجهته بكفاءة، ومن هذه السبل تجاهل الحركات والأحزاب اليمينية، كما جرى بعد اعتداءات باريس؛ حيث لم يتم دعوة حزب الجبهة الوطنية إلى مسيرة الوحدة ضد الإرهاب الذي تقدمها فرانسوا هولاند وعدد من قيادات العالم.
كما غابت الجبهة الوطنية عن اجتماعات هولاند مع القيادات السياسية المختلفة بالبلاد لتشكيل ما أطلق عليه "الجبهة الجمهورية" لتنسيق سياسات لبلاد خلال الفترة المقبلة.
ورد الحزب في المقابل، بخروجه في مسيرة بزعامة مارين لوبن، في تأكيد على أن الوحدة المزعومة في مواجهة الإرهاب ليست كاملة.
سياسة "استعارة العباءات"
كما أن لجوء القوى السياسية الأخرى لتبني بعض سياسات الأحزاب اليمينية، في محاولة لتفكيك القاعدة الشعبية الموالية لها يشكل تكرارًا لسياسة "استعارة العباءات" كما جرى في التسعينيات من القرن الماضي عندما ركز حزب العمال البريطاني خطابه على البعد الاقتصادي لبرنامجه الانتخابية، فيما وصف وقته "باستعارة عباءة المحافظين الاقتصادية".
وأسهم هذا التوجه في تحقيق فوز تاريخي لحزب العمال، لكنه وتدريجيًّا قضى على سمات التمايز بينه وبين المحافظين ونال من شعبيته، وهو ما تكرر في عدد من التجارب السياسية الأوروبية، والمرجح أن تمر أحزاب اليمين واليسار الوسط في أوروبا بأزمة مشابهة مستقبلا مع التزامها بالكثير من بنود أجندة التيارات المتطرفة، ما قد يفقدها تأييد قواعدها الانتخابية الأصلية.
وختاما، يشكل صعود اليمين المتطرف في أوروبا أزمة حقيقية، ويضع اتجاه بعض الناخبين لمنح أصواتهم لمثل هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة عبئًا على الأحزاب التقليدية للعمل على استمالة هذه القطاعات، والعمل على حل المشكلات المتعلقة بأوضاع المهاجرين.
من ناحية أخرى، فإن اعتماد سياسات تدعم المهاجرين وقضايا الشرق الأوسط يساعد أوروبا على كسب دعم جاليات المهاجرين، ودفعهم للمشاركة السياسية والتصويت في الانتخابات ومن ثم دمجهم في المجتمعات الأوروبية، وهو ما يرتبط بدعم غالبية المواطنين الأوروبيين لتوجهات مؤسسات الدولة الداعمة للتسامح والانفتاح على الآخر، مما يعزز من قدرة الدولة والمجتمع في أوروبا على مكافحة التطرف.
aXA6IDMuMTUuMjM5LjE0NSA= جزيرة ام اند امز