ثقافة 2015.. غيابات فادحة مع رحيل نجوم الكتابة والفكر
غيابات فادحة وخسارات كبيرة لأسماء مثلت أبرز الوجوه لأجيال إبداعية بدأت تتوارى من المشهد بعد غياب أركانها الأصيلة..
عام يلملم أوراقه ويستعد للانطواء في ذمة التاريخ، بأحداثه ووقائعه، وآخر يتأهب للحضور بدعوات وآمال تحف البشرية مع مطلع كل عام جديد. 2015، شأنها شأن كل ما سبقها من أعوام منذ وجد الإنسان على الأرض، حملت على مدار أيامها الطويلة والثقيلة على ملايين البشر في أرجاء متفرقة من الأرض، آلام وأحزان ودماء تجري كالأنهار، صراعات وحروب، ضحايا وقتلة، أبرياء ومذنبون، ولحظات تومض كالبريق تحمل ألمًا خادعًا كالسراب في ألا تكون النهاية فاجعة والفناء حتميًّا.
ثقافيًّا، وعلى المستوى العربي، ورغم كل الهموم والشجون، شهد العام 2015 العديد من الأحداث والوقائع والغيابات، من المحيط إلى الخليج، توارت في هذا العام شمس كوكبة من ألمع نجوم الأدب والكتابة والفكر والفن في العالم العربي، وسجل 2015 إسدال الستار على نهاية الرحلة كل في مجاله ودائرة إبداعه وتفرده..
غيابات فادحة وخسارات كبيرة لأسماء مثلت أبرز الوجوه لأجيال إبداعية بدأت تتوارى وتختفي تمامًا من المشهد بعد غياب أركانها الأصيلة.. في مصر تكاد شجرة الستينيات الزاهرة تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد رحيل الغيطاني والأبنودي وسليمان فياض، سبقهم بسنوات أسماء بحجم رضوى عاشور وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وخيري شلبي..
وتتساقط أوراق الستينيات..
في فبراير 2015، رحل الكاتب الروائي والقاص واللغوي المصري سليمان فياض (1929-2015) عن 86 عامًا، صاحب رواية «أصوات»، وبغيابه انطوت صفحة ناصعة من تاريخ الرواية والقصة العربية، ويفقد جيل الستينيات، الجيل الأدبي الأشهر في حياتنا المعاصرة، واحدًا من أهم وأبرز أركانه وأعمدته الكبرى، ويخسر مشهدنا الروائي والقصصي واحدًا من أعلامه الأفذاذ، ومبدعيه من أصحاب البصمات الراسخة، يشهد على رسوخه رواياته ومجموعاته القصصية، إضافة إلى إسهاماته الكبيرة في مجالات أدب الأطفال والدراما الإذاعية والبرامج الثقافية والبحث اللغوي والتاريخي، ترك فياض عشرات الكتب في الدراسات اللغوية والقواميس العربية وتطوير قواعد النحو، وله أيضًا إبداعات رائعة في القصة القصيرة والرواية فضلًا عن التأريخ لأعلام العرب ومنهم: «ابن النفيس»، و«ابن الهيثم»، و«ابن بطوطة»، و«البيروني»، و«جابر بن حيان»، و«ابن البيطار»، و«ابن سينا»، و«ابن رشد»، و«الفارابي»، و«الخوارزمي» و«الإدريسي» و«الدميري» و«ابن ماجد» و«القزويني» و«الجاحظ» و«ابن خلدون».
أبريل 2015، سيشهد رحيل أكبر شعراء العامية في مصر، وأحد فرسان الأغنية العربية في القرن العشرين، الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، الملقب بالخال، والذي توفي عن 76 عامًا بعد صراع مرير مع المرض، رحلة طويلة وعامرة بالإبداع والشعر والفن والصخب والدموع والأنين والضحك، فارق الأبنودي الحياة بعد أن ملأ الدنيا شعرًا جميلًا وفنًّا عذبًا وألحانًا تردد وتراثًا يبقى، عاش الأبنودي أكثر من نصف قرن وهو ملء السمع والبصر، فكان "الشاعر" بألف لام التعريف، ملأ الدنيا وشغل الناس، عقود مزدهرة بالإبداع والشعر الجميل والفن الممتع، اختلط فيها الحماس بالفرح، والضحك بالدموع، والتهليل بالأنين، والحلم بالانكسار، والهزيمة بالنصر، والهم القومي بالكفاح العالمي. أطرب الأبنودي الجماهير وأنشدهم، واتسعت شهرته لتجاوز حدود المحروسة إلى جميع أرجاء العالم العربي، بعد أن تغنى بكلماته العذبة نجوم الغناء والطرب، مثل العندليب الأسمر، شادية، نجاة، ومن الأحياء المعاصرين علي الحجار ومحمد منير وآخرون.
في الشهر ذاته، وإن لم يحظ بنفس الاهتمام والأضواء التي حظي بها الأبنودي، رحل الشاعر السوداني المقيم بالمغرب محمد الفيتوري الذي توفي في أبريل أيضا عن 79 عامًا بأحد مستشفيات الرباط بعد معاناة مع المرض، لقب الفيتوري بشاعر إفريقيا والعروبة، وهو من رواد الشعر الحديث حيث ارتبط شعره بنضال عدد من الدول الإفريقية ضد المستعمر، وقد أسقطت عنه الحكومة السودانية الجنسية وسحبت منه جواز سفره عام 1974 بسبب معارضته لنظام جعفر النميري، لكنها أعادت له الجنسية ومنحته جواز سفر دبلوماسيًّا عام 2014.
في سبتمبر، وبالولايات المتحدة الأمريكية، توفي الكاتب والناقد الحداثي المصري إيهاب حسن عن 90 عامًا دون صخب أو اهتمام يليق بمكانته وشهرته التي حققها في الغرب، كان إيهاب حسن من أعلام بل من مؤسسي نقد الحداثة وما بعدها وله إسهامات رائعة ضمن إطار ما عرف بالتفكيك وما بعد البنيوية، نصوصه النقدية كلها مكتوبة بالإنجليزية ولم يترجم منها إلا شذرات أو بضع مقالات تعد على أصابع اليد الواحدة رغم أهميته ودوره في تاريخ النقد المعاصر، يعتبر حسن من أوائل المنظرين لتيار ما بعد الحداثة في العالم، بعد الاستقرار في أمريكا منذ العام 1946. وكتابه «دورة ما بعد الحداثة» الوحيد الذي ترجم إلى العربية من بين أعماله كلها، وترجمه في الآونة الأخيرة الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم الذي قال، إنه "أول من نبه إلى الرجل في الثقافة المصرية" منذ عام 1992 حين ترجم مقالات له بمجلات مصرية، مضيفًا أن شهرته في الخارج بلغت الآفاق "إلا أنه لم ينل حظًّا عربيًّا.. وترجمت كتبه لمعظم اللغات ما عدا العربية"..
وفي أكتوبر 2015، غادر جمال الغيطاني صاحب «الزيني بركات»، بعد أكثر من شهرين أمضاهما مناضلًا وصامدًا في معركته الأخيرة مع المرض، توفي الكاتب والروائي الكبير عن سبعين عامًا، ولفظ أنفاسه الأخيرة صباح الأحد (18 أكتوبر) بمستشفى الجلاء العسكري بالقاهرة، وشيعت جنازته في اليوم ذاته من مسجد السيدة نفيسة، جمال الغيطاني أثرى الحياة الثقافية والأدبية لأكثر من خمسين عامًا، فهو روائي وصحفي مصري صاحب مشروع روائي فريد استلهم فيه التراث المصري ليخلق عالمًا روائيًا عجيبًا، يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجًا، انفتحت تجربته الفنية في السنوات الأخيرة على العمل التلفزيوني مع المحافظة على نفس الملامح التي نجدها في الرواية، إذ كشف النقاب عن عالم آخر يعيش بيننا من المعمار والناس، من أشهر أعمال الغيطاني «من أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، «أرض أرض»، «حكايات الغريب»، «الرفاعي»، «التجليات»، «وقائع حارة الزعفراني»، و«دفاتر التدوين» في ستة أجزاء.
أسابيع قليلة من وفاة الغيطاني، حتى لحق به المترجم والكاتب المصري الكبير، خليل كلفت، وهو مثقف ومناضل يساري وناقد أدبي وكاتب قصة قصيرة ومؤلف ومفكر سياسي واقتصادي ولغوي ومعجمي ومترجم مصري، كان من أهم مناضلي حزب العمال الشيوعي المصري ومفكريه، ولد في النوبة بأسوان في مصر في 9 أبريل 1941، وكتب في أول حياته باسم مستعار "صالح محمد صالح".
فارق المفكّر والمترجم المصري الحياة عن عمر ناهز 74 عامًا، تاركًا إرثًا ضخمًا من الأعمال الفكرية والأدبية.
وفي نوفمبر، رحل الكاتب والروائي الحداثي المصري إدوار الخراط (1926-2015) عن 89 عامًا ليغيب كاتب غزير الإنتاج موسوعي الثقافة لم يترك مجالًا إلا أسهم فيه بنصيب من الترجمة إلى الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والنقد التشكيلي والشعر والتصوير أيضًا، تمثل تجربة الخراط، أجرأ مغامرة إبداعية في تاريخنا الأدبي المعاصر، وأكثرها تمردًا على كل المواضعات والحدود الأدبية المتعارف عليها، تسعة وثمانون عامًا، عاشها إدوار الخراط، مخلصًا للتجريب المجنون، وكسر التقاليد النوعية، والتبشير بثقافة جديدة وخاصة، تقوم على استيعاب عميق لتراث الإنسانية في تجلياتها كافة؛ التاريخ القديم، إرث الديانات السماوية التوحيدية الثلاث، كل ما أنتجته البشرية من فلسفات وأفكار ورؤى، تنوعت وتشكلت عبر العصور من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بفلسفات العصور الوسطى، وصولًا إلى الفلسفة الحديثة ومدارسها ومذاهبها الحداثية المعاصرة.. من أشهر أعماله «حيطان عالية»، «رامة والتنين»، «ترابها زعفران»، «بنات إسكندرية»، «أضلاع الصحراء»..
عربيًا، رحلت الروائية والسينمائية الجزائرية آسيا جبار عن 79 عامًا في مستشفى بباريس حيث عاشت وحققت حضورًا لافتًا برواياتها التي كتبتها بالفرنسية إضافة إلى فيلمين سينمائيين هما «نوبة نساء جبل شنوة» 1977، و«الزردة وأغاني النسيان» 1982، وانشغلت آسيا جبار بقضايا المرأة وانتخبت لعضوية أكاديمية اللغة الفرنسية عام 2005 كأول امرأة عربية تتبوأ ذلك المكان، كما كانت ضمن المرشحين لجائزة نوبل للآداب، آسيا جبار كاتبة وروائية ومخرجة سينمائية الجزائرية طالبت بتحرير المسلمات، وكانت عضوًا في الأكاديمية الفرنسية.
وبعيدًا عن الأضواء المسلطة على مراكز إنتاج الثقافة العربية، توفي الروائي والباحث البحريني خالد البسام عن 59 عامًا في صمت لا يتناسب مع إنجازه في الرواية والتأريخ للثقافة والفنون في الخليج في كتب منها «يا زمان الخليج»، و«كلنا فداك.. البحرين والقضية الفلسطينية 1917-1948»، و«تلك الأيام.. حكايات وصور من بدايات البحرين»، و«القوافل» الذي رصد فيه تأثير رحلات الإرساليات الأمريكية في مدن الخليج والجزيرة العربية بين عامي 1901 و1926 على الحياة الاجتماعية والثقافية.
أيضًا رحل الكاتب والمسرحي اللبناني ريمون جبارة عن ثمانين عامًا، وهو أحد رموز الحركة المسرحية اللبنانية.
فاطمة المرنيسي، الكاتبة المعروفة وعالمة الاجتماع المغربية، توفيت عن 75 عامًا، بعد معاناة مع المرض، وهي من أشهر الكاتبات المغربيات المدافعات عن حقوق وقضايا المرأة، والتي تناولتها من زاوية علم الاجتماع على الأخص. كانت المرنيسي من أوائل المغربيات اللواتي تلقين تعليمًا عربيًّا في مدارس خاصة، بسبب معارضة والدها للتعليم في مدارس فرنسا الاستعمارية، وتابعت دراستها في المغرب وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، واشتغلت بتدريس علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالرباط، وحصلت المرنيسي في عام 2003 على جائزة أمير استورياس الإسبانية مناصفة مع الناقدة والروائية الأمريكية سوزان سونتاغ، وتُرجمت أعمال المرنيسي إلى عدة لغات، ومن أشهر أعمال فاطمة المرنيسي «شهر زاد ليست مغربية»، و«ما وراء الحجاب»، و«الإسلام والديموقراطية»، و«شهر زاد ترحل إلى الغرب» و«أحلام النساء الحريم»..
وأبت 2015 أن ترحل إلا وهي تحصد معها مزيدًا من الغيابات لعقول مصرية وعربية وفذة؛ إذ توفي مساء الأحد 28 ديسمبر، شيخ علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرين الدكتور محمد حافظ دياب عن عمر ناهز السابعة والسبعين، محمد حافظ دياب، من مواليد العام 1938، وهو أستاذ علم الاجتماع وعلم اجتماع الأدب وشيخ الدراسات الأنثروبولوجية في الجامعات المصرية والعربية، والمتخصص في تحليل الخطاب المعاصر، قدم للمكتبة العربية العشرات من الدراسات والمؤلفات التي تغطي مساحات عريضة من التحليل الاجتماعي والثقافي لظواهر عديدة في المجتمع المصري والعربي المعاصر، من أهمها قراءاته للخطاب الإسلامي في عدد من وجوهه ومظاهره، منها دراسته القيّمة «الإسلاميون المستقلون.. الهوية والسؤال»، وكتابه المرجعي «سيد قطب.. الخطاب والأيديولوجيا» الذي قام فيه بمساءلة الخطاب «القطبي»، والكشف عن آلياته ومرجعياته الفكرية، وقدم تحليلًا وافيًا لأهم أفكاره الأصولية وردها إلى مصادرها العميقة في تكوينه وثقافته.. وأخيرًا كتابه المهم «نقد الخطاب السلفي» الذي عكف على إعداده وتأليفه لسنوات عديدة، وقدم فيه قراءة مستفيضة عن الخطاب السلفي منذ ظهور الإمام أحمد بن حنبل وحتى حزب النور السلفي الذي ظهر بعد ثورة 25 يناير..