القمة السعودية التركية.. المتاهة والبحث عن مخرج
يمثل إعلان تأسيس مجلس تعاون استراتيجي سعودي- تركي تحقيقًا للعبارات المكتنزة بالإصرار على التوافق التي أطلقها الرئيس التركي رجب أردوغان
يمثل إعلان تأسيس مجلس تعاون استراتيجي "سعودي- تركي" تحقيقًا للعبارات المكتنزة بالإصرار على التوافق، والتصريحات ذات السقف العالي التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر قناة "العربية" والتي قال فيها إنّ "العلاقات السعودية التركية ستشهد نقلة في العلاقة الأخوية بين البلدين الشقيقين لم يسبق لها مثيل"، وذلك قبيل وصوله الرياض ظهر الثلاثاء، ولقائه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وليس من قبيل المبالغة أو المصادفة أن يورد أردوغان عبارة "لم يسبق لها مثيل" لأن التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها تركيا اليوم ليس لها مثيل أيضًا، مما يجعلها تعمل على بناء علاقات مختلفة تتنازل فيها حكومة أردوغان عن بعض مواقفها التي تسببت في الكثير من السحب الداكنة في العلاقات الخليجية- التركية.
لكن لا شيء حتى الآن يستطيع أن يخبرنا عن مدى جدية الأتراك في بداية حسن نوايا جديدة تبرر هذا الركض نحو دول الخليج، خصوصًا أن القضية الأساسية التي سبّبت كل هذا ما زالت تحتاج إلى إجابة وسلوك سياسي تركي مختلف جذريًّا عما سبق، والمقصود هنا الملف المصري، وتحديدًا ما اتصل بالدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين "الإرهابية"، ومناصبة حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي العداء.
هذا الموقف ليس مهمًّا فحسب لتبرير تغيّر في مواقف تركيا وحسن النوايا، ولكن لأن الإمارات -التي نالها الكثير من المواقف التركية السلبية- ومصر، هما محوران أساسيان في التحالف الإسلامي ضد الإرهاب الذي تقوده السعودية، والذي يمثل الأمل الأهم لتركيا ضمن الواقع الإقليمي القاسي الذي تعيشه المنطقة، بما يشبه "المتاهة" بالنسبة إلى تركيا، حيث تجد نفسها وحيدة في مواجهة الدب الروسي الغاضب، والحليف الإيراني، مع ضبابية في الموقف الأوروبي والأمريكي نحو التعقيدات الإقليمية، وانعزال عن بقية العالم الإسلامي بسبب مواقفها خلال السنوات القليلة الماضية.
أردوغان، الذي يعيش نشوة السعادة بالنمو الاقتصادي التركي، أراد أن يستفيد من الاضطرابات في ما يسمى دول "الربيع العربي" لتحقيق صعود سياسي إقليمي لتركيا، وقيادة شعبية للشارع العربي الغاضب، وكان هذا سيكون على حساب القيادة السعودية للإسلام السني في المنطقة، والتي كانت تحاول بناء كثير من التوازنات في التعامل مع الموقف، للخروج بأقل الأضرار. لكن الثمن كان دخول تركيا في وضع صعب، زاده صعوبة الأزمة الاقتصادية العالمية التي تركت آثارها على الجميع بما فيها تركيا.
أردوغان يدرك جيدًا أنه ليس من سبيل إلى "تطبيع" حقيقي بين دول الخليج المركزية وبين تركيا، إلا من خلال اعتراف تركي بالنظام المصري الذي يقوده الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وكان أردوغان قد اعترف، صراحةً، بهذه المعضلة، عندما أقرّ بأنّ الملف المصري هو السبب الرئيسي في توتّر علاقات بلاده بالإمارات، مما أدى إلى تراجع كبير لميزان التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين، وهو ما يقوّض "المعجزة" الاقتصادية التركية التي يزهو بها أردوغان ويسعى لتسويقها.
الإمارات من ناحيتها رحّبت بالاعتراف التركي لإدراكها أهمية طيّ الخلافات في ظل الواقع الإقليمي الحرج، وظهر ذلك في التغريدات التي نشرها وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، عبر حسابه على "تويتر" ردًّا على تصريحات الرئيس التركي التي دعا فيها إلى إزالة أسباب التباعد في علاقات الإمارات مع تركيا في أسرع وقت ممكن "بعد أن كانت قوية جدًّا"، لافتًا إلى "عدم وجود خلافات بين البلدين"، باستثناء الموقف مما سمّاه "الانقلاب العسكري في مصر"، لكنّه رغم ذلك، شدّد على "وجوب حل ذلك بالطرق الدبلوماسية".
قرقاش قال: "الخلاف التركي الإماراتي حول التطورات المصرية آن الأوان لتجاوزه، المنطقة لا تتحمل مثل هذه الخلافات. مصر من مفاتيح الاستقرار، وشعبها قرّر مساره"، مشدّدًا على أنّ "العلاقات الطيّبة والإيجابية مع أنقرة هي ما ننشده، والأساس احترام الشأن العربي من خلال مبدأيْ السيادة وعدم التدخل، اللذين يجب أن يحكما تصرفاتنا".
الزيارة التركية للرياض لها أهميتها الفارقة لأسباب أخرى أيضًا، كما يقول الكاتب الصحافي المتخصّص في الشؤون السعودية سليمان نمر، والتي تتمثل في "التطورات المتلاحقة في المنطقة، لا سيما في سوريا بعد تزايد حجم التدخل العسكري الروسي فيها سورية ضد فصائل المعارضة السورية ولصالح بقاء الرئيس بشار الأسد".
ويعرب نمر عن اعتقاده في تصريحه لموقع "العين" الإخباري، أنّ "التطور الأبرز الذي سيحظى باهتمام في المحادثات التركيّة – السعوديّة، إعلان الرياض عن إقامة التحالف العسكري الإسلامي ضد الإرهاب بمباركة السعودية وتركيا ومصر ونحو 30 دولة عربية وإسلامية أخرى".
ويلفت نمر أيضًا، إلى تطابق المواقف والمصالح المشتركة بين الرياض وأنقرة "لا سيما بشأن دعوتهما لإسقاط الرئيس بشار الأسد، ما جعلهما تتفقان في تقديم الدعم العسكري واللوجستي والمالي لفصائل المعارضة السورية، وتنسّقان من أجل ذلك -ومعهما قطر- التي أصبحت الحليف الأول لتركيا في العالم العربي"، موضحًا أنّ تصاعد الهجمات العسكرية الروسية الجوية على قوات المعارضة السورية دفع السعودية وقطر "لزيادة حجم مساعداتهما إلى فصائل المعارضة تسليحًا وتدريبًا عبر التنسيق والتعاون مع تركيا".
ويتوقع نمر "قيام تحالف تركي سعودي في المنطقة لإسقاط النظام السوري، في مواجهة التحالف الإيراني الروسي لحماية هذا النظام".
وما يجعل هذا الهدف يكتسب أهميته الاستراتيجية هو أنّ الحرب في سوريا سترسم ملامح السيطرة الإقليمية في المنطقة، فالسعودية وتركيا تتفقان على مختلف التفصيلات المتّصلة بهذا الملف الذي يمثل نقطة ارتكاز حيوية لتركيا التي تتشارك مع سوريا بخط حدود طويل مليء بالثغرات.
لذا ترغب أنقرة في التخلص من الأسد، وإزالة التهديد المتزايد لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وكبح جماح عدم الاستقرار على طول حدودها الجنوبية، فضلًا عن إعاقة حلم الأكراد برسم ملامح لدولتهم وسط هذه الفوضى العميقة والزلازل السياسية التي تضرب الإقليم.
والقمة السعودية- التركية لن تُغفل بأي حال التوتر في اليمن، خصوصًا أنّ التوافق بين البلدين بدا واضحًا وجليًّا منذ انطلاق "عاصفة الحزم"، وهو ما جسّدته الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز لتركيا في أبريل (نيسان) 2015.
إذن، ثمة تعويل على موقف تركي ينتهي بطيّ صفحة الخلاف حول مصر، والدفع باتجاه دعم استقرارها، وعدم التدخل في خياراتها، وهذا مطلب إماراتيّ، لإعادة القاهرة إلى ممارسة دورها في إرساء ملامح السلام والاستقرار في المنطقة.
ومن شأن تهيئة هذه الظروف، وتقليص مساحات الخلاف، أن يجعل التربة خصبة لإنضاج مشاريع التنمية وتعميق التعاون الاقتصادي المشترك ليس بين تركيا والسعودية فحسب، بل بين تركيا والدول الخليجية، وهو أمر تحتاج إليه تركيا بشكل خاص للخروج من متاهتها الاقتصادية، خصوصًا أن الاقتصاد المزدهر هو الرهان الوحيد لحزب "العدالة والتنمية" للاستمرار في الفوز بالانتخابات التركية المتعاقبة.
فإذا كانت السنوات العشر الأخيرة قد شهدت زيادة حجم التبادل التجاري بين الرياض وأنقرة وصل في عام 2014 إلى ما يعادل 5 مليارات دولار، فإنّ عام 2016 مرشّح لزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، لا سيما مع ورود تقارير رسمية صادرة عن وزارة التجارة والصناعة السعودية تشير إلى أنّ عدد المشاريع المشتركة بين البلدين بلغ نحو 159 مشروعًا، منها 41 مشروعًا صناعيًّا، و118 مشروعًا في مجالات غير صناعية تختلف باختلاف نشاطاتها، وبرأس مال مستثمَر يبلغ مئات الملايين من الريالات.
فقد نجح المستثمرون السعوديون، كما أفادت صحف سعودية، في الحصول على مكانة متميزة في الاقتصاد التركي والاستحواذ على نسب كبيرة من أسهم كبريات المؤسسات الاقتصادية والتجارية في السنوات العشر الأخيرة، من أبرزها شركة "تورك تيليكوم"، و"أفييا" لخدمة الهواتف المحمولة، و"تويوتا تركيا"، و"بنك تركيا فاينانس"، و"بنك البركة تورك"، وإدارات مجموعة فنادق "فورسيزنز، ورافلز، وسويسوتيل، وموفنبييك" في تركيا.
واستفاد، في المقابل، المستثمرون الأتراك من مشروعات البنى التحتية الكبرى التي يجري العمل على تنفيذها في المملكة، وكان أبرزها مشروع تجديد وتشغيل مطار "الأمير محمد بن عبد العزيز" في المدينة المنورة بالشراكة مع شركة سعودية، كما تعتبر السوق السعودية من أكبر الأسواق الخليجية والعربية للمنتجات التركية، فقد وصل حجم البضائع التركية المصدّرة إلى المملكة أكثر من 3 مليارات دولار.
هذه المشاريع، كي تكتمل وتتبلور أهدافها وتنمو، تحتاج إلى بيئة سياسية مستقرّة على مختلف الأصعدة، ونيات صادقة، لا تقبل التسويف، والمواقف اللزجة، وهذا ما يجعل زيارة أردوغان للرياض، التي تستمر يومين، مثقلة بالتّفاصيل والحيثيّات، للخروج من متاهة "لم يسبق لها مثيل" أيضًا.