"أسطرة" قاسم سليماني .. غموض يخدم دور إيران ونواياها الباطنيَّة
إضفاء روح "سوبرمانيّة" لقائد فيلق القدس لتضميد هزائم طهران
إضفاء روح "سوبرمانيّة" لتحويل قاسم سليماني لأسطورة محاولة إيرانية لتضميد هزائمها وتحسين صورتها بدلًا من الضعيفة المحاصرة.
تنبثق "الأسطرة" دائمًا في الحكايات والمرويات السردية وفي التاريخ أيضًا، عندما تعجز المخيِّلة عن تأمل الواقع الطبيعي أو تمثله. وتحدث في السياسة، كذلك، عندما لا تتمكن الدول أو الجماعات من إثبات منجزها، فتذهب نحو الهالة التي تستفيد من الخيال، فتنفخ في الغموض روحًا "سوبرمانيّة" من أجل علاج اختلالاتها، أو تضميد هزيمتها، أو إخفاء نواياها الباطنية.
ومثل هذا الأمر تفعله الماكينة الإعلامية والسياسية الإيرانية بالجنرال قاسم سليماني، القائد العسكري لفيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران، والذي قام مرشد الثورة علي خامنئي بترقيته من لواء إلى فريق في الحرس الثوري، مطلقًا عليه، كجزء من لعبة "الأسطرة" لقب "الشهيد الحي".
لقد مات سليماني في الإعلام كثيرًا، وأصيب كذلك إصابات بالغة، وأدخل العناية المركزة، وهذا كله يخدم الصورة التي تُصاغ للرجل الذي ينبعث، كما أريد له، من الرماد كطائر العنقاء، فيُضطر إلى المشاركة في تشييع جثمان السفير الإيراني السابق غضنفر ركن آبادي في طهران، ليرد على إشاعة إصابته أواخر نوفمبر/ تشرين أول الماضي بجروح خطيرة إثر هجوم شنه ثوار سوريا في حلب.
سلم النجومية
سليماني الملقب بـ"حجِّي" أو الحاج، والذي يقترب من الستين، والمولود لأب فلاح في بلدة رابور بمحافظة كيرمان الإيرانية، والحاصل فقط على شهادة الثانوية العامة، صعد بشكل كبير في سلم النجومية، وتسلم أعلى المواقع، ورسمت له صورة متعالية تقترب من "الميتافيزيقا" من أجل إسناد الروح القومية الإيرانية التي تحتاج إلى بطل، وإن لم تجده، فإنها تنتجه.
وفي هذا السياق، سرَّبت وسائل إعلام، تدور في فلك الاستقطاب الإيراني، أن ممثل الولي الفقيه في الحرس الثوري الإيراني أعلن، أخيرًا: "انتهاء القسم الأول من المذكرات الخاصة بسليماني، لكن هذه المذكرات التي تحوي قصصًا من ذاكرة فرقة (ثأر الله 41) التي كان يرأسها الجنرال في مطلع الثمانينيات (لن تُنشر ما دام الحاج حيًّا) نزولًا عند رغبته".
ولكن لماذا تحتاج إيران إلى خلق هذه الهالة حول قائد حُمِّل أكثر مما يحتمل، وجرى تسويقه باعتباره "المخلِّص"؟
"أسطرة سليماني" حاجة إيرانية خالصة لمواكبة الظروف التي نشأت عقب احتلال العراق وبداية التوسع الإيراني في المنطقة الذي نراه في شكله الحالي اليوم، بحسب الباحثة في الشأن الإيراني والحاصلة على الدكتوراه من إيران فاطمة الصمادي.
وترى الصمادي، التي أذنت لبوابة "العين" الإخبارية، بالاقتباس مما كتبته على صفحتها على "فيس بوك"، أن سليماني صيغة أسطورية مناسبة للحالة العربية، "فهو يوجد في المنطقة منذ زمن طويل ويتحدث العربية، وله علاقات قوية بقادة حزب الله وحماس والجهاد .. وإلا لكان الأوْلى بالأسطورة هو الجنرال محمد علي جعفري القائد العام للحرس الثوري والمسؤول عن سليماني".
مخاطبة الداخل
أسطرة سليماني صيغة مهمة لمخاطبة الداخل الإيراني وتبرير التدخل في المنطقة العربية على وجه الخصوص، "فهو بالنسبة للمتدينين الحامي لمقام زينب والمجابه لإسرائيل، أما بالنسبة لأصحاب التوجه القومي وأولئك الذي لا يؤمنون بالجمهورية الإسلامية أيضًا، فهو الذي يقاتل في جبهات يغلب عليها (التطرُّف) فيمنع وصول خطرها إلى إيران".
وفي نظر الباحثة المتخصصة في الشؤون الإيرانية، فإن أسطرة سليماني ضرورة لبناء صورة إيران "القادرة" داخليًّا وخارجيًّا، بدلًا من الضعيفة المحاصرة، موضحة: داخليًّا حتى بالنسبة للشباب الذين وإن كانوا قد باتوا في قطيعة شبه كاملة مع الجيل الأول والثاني للثورة، إلا أنهم مسكونون بـ"التفوق الإيراني" وصورة سليماني تغذِّي لديهم هذا الحس "وهو ما لاحظته في المدونات الشبابية". وخارجيًّا هي أيضًا ضرورة "في بيئة باتت ضعيفة ورخوة كالبيئة العربية".
وتلفت الصمادي إلى أمر مهم، إذ تعتقد أن أسطرة الشخصيات صفة عميقة في الشخصية الإيرانية، "حتى في الشعر نجد مثلًا شخصيات أسطورية مثل: رستم وعائلته وإسفنديار وغيرها من الشخصيات الأسطورية التي تغصّ بها شاهنامة الفردوسي، وكثيرًا ما ترد مفردة "قهرمان" وتعني البطل في مفردات الإيرانيين اليومية، وكذلك في البعد العقائدي وأسطرة الشخصيات التي رافقت الإمام الحسين يوم استشهاده، وهو ما نجده في أسطرة الشباب الذين قادوا المعارك في الحرب العراقية الإيرانية.
الحرس الثوري
بيْد أنها تستدرك، فتؤكد أن الحرس الثوري الإيراني كمؤسسة لا تُدار بشخص الأسطورة، وتعتمد المؤسسية والتخصص، لكن "بناء صورة سليماني هو جزء من عمل القسم الدعائي للمؤسسة التي تُلاعب العواطف، فتختار شكل وأوقات ظهور الرجل .. والقرار في هذه المؤسسة يشترك فيها سليماني وقادة الحرس الباقون، وليس صحيحًا أنّه صاحب الكلمة الوحيدة في ملف العراق، فعلي لاريجاني مثلًا له تأثير كبير في هذا الملف .. سليماني يملك صفات قائد بنى لإيران مداخل نفوذ في مناطق استراتيجية، لكنّ الصورة وأسطرة الصورة ضرورة لإيران وحلفائها، مبيّنة: لإيران لبناء صورة إيران "القادرة"، ولحلفائها لبناء صورة إيران "الحامية".
وفي سياق اندفاع "الأسطرة" ربما تختلط الوقائع بالأوهام، ومن هنا من حق المرء أن يشك أو يتثبَّت من كل شيء يتصل بـ"الحجي"، ومن ضمنه ما أعربت عنه مصادر استخباراتية أمريكية بأن سليماني قام بتدريب المقاتلين العرب في البوسنة، بغية إرسالهم عبر الحدود الإيرانية الأفغانية في عامي 1996 و1997، وسط تصاعد التوتر بين إيران وحركة طالبان خلال حكمها لأفغانستان.
شخصية 2015
سليماني، الذي اختير شخصية العام 2015 في إيران، يتولى أيضًا -بأمر من المرشد علي خامنئي- مسؤولية السياسة الخارجية الإيرانية في عدة دول منها: لبنان والعراق وأفغانستان التي يجري اختيار الكثير من كوادر سفارات إيران فيها من بين ضباط الحرس الثوري الإيراني، بمعنى، كما توضح مصادر إعلامية، أنه "يدير مشروع التمدُّد الإيراني في العالم بأسره، وليس في المنطقة العربية وحدها، ويعتبره البعض القائد الفعلي للجناح العسكري لحزب الله اللبناني".
وفي سياق التسريبات أيضًا، ذكر تقرير أن سليماني التقى عام 2009 في مكتب الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني بكل من كريستوفر هيل والجنرال رايموند أوديرنو، أكبر مسؤولين أمريكيين في العراق في ذلك الحين، في حين أنكر المسؤولان الأمريكيان حدوث هذا اللقاء.
لكن الإنكار الأمريكي، ربما لا يصمد طويلًا، ففي عام 2007 تلقى قائد القوات الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس اتصالًا على هاتفه الشخصي، من قاسم سليماني الذي أبلغ القائد الأمريكي جملة واحدة: "إنني المسؤول الإيراني عن الأوضاع في العراق"، كما يذكر لموقع "العين" المحلل السياسي العراقي علي عبد الأمير، الذي يضيف أن اتصال سليماني ببترايوس كان "رسالة موجزة ولكنها محتشدة بالدلالات، أهمها أن الرجل أراد القول إنه نظير إيراني للقائد الأمريكي، أي بمعنى آخر: طهران مقابل واشنطن في العراق، وهي قادرة على الوصول إلى الهاتف الشخصي لمن يدير الأوضاع فيه".
لم تنسحب القوات الأمريكية فحسب، بل بترايوس أيضًا وليس من العراق فحسب، بل من الحياة العامة إثر "فضيحته العاطفية" كما يقول عبد الأمير الذي يؤكد أن "أمريكا ظلت تتراجع، فيما صار سليماني يقود قوات عراقية في معاركها ضد عناصر (داعش) ممن وصلوا صيف العام 2014 إلى تخوم بغداد".
وفي سياق النفخ في صورة سليماني وبطولاته الخارجة عن المألوف، راح وزير المواصلات العراقي السابق ومسؤول قوات بدر، هادي العامري، يشيد بدور سليماني في التصدي لتنظيم "داعش" ومنعه من اجتياح إقليم كردستان العراق، ولولا سليماني "لكانت حكومة حيدر العبادي في المنفى، ولما كان هناك وجود للعراق!".
aXA6IDMuMTQ3LjcxLjE3NSA= جزيرة ام اند امز