«مخاطر التحايل الدستورى على مستقبل الوطن»
اتفقت النصوص على أن سلطة رئيس الدولة فى إصدار تشريعات محكومة بشرطين: غيبة البرلمان، ووجود ضرورة لإصدار التشريع
كنت أنوى أن أتابع حديثى الذى بدأته فى الأسبوع الماضى عن التعليم من واقع معايشتى الشخصية، لولا أننى أيقنت أن وطننا فى خطر بسبب تصريحات البعض الذين آلوا على أنفسهم أن يستخدموا علمهم وثقافتهم لما يتصورونه إرضاء للحاكم دون أدنى التفات لمصلحة الوطن ومصيره. وأعنى بهؤلاء من يروجون بإلحاح لدعوى «أنه لا ضرورة لعرض القرارات بالقوانين التى أصدرها الرئيسان المؤقت والمنتخَب على مجلس النواب» لأسباب يروجها أصحابها وهم أول من يعلم فسادها. وأرى أن الأمر خطير وجلل يهدد مستقبل الوطن فى حالة العبث بالدستور. فالقوانين المتعلقة بتشكيل سلطات الدولة ومنها قانون انتخابات الرئاسة وقانون مجلس النواب وقانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون تقسيم الدوائر، كلها مهددة بالانعدام وفقدان آثارها منذ صدورها دون حاجة لأى إجراء آخر، وذلك وفقاً لصريح نص المادة 156 من الدستور، وذلك إذا لم تُعرض على مجلس النواب خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انعقاده وتناقش ويوافق عليها، أى أن العرض أولاً والمناقشة ثانياً والموافقة ثالثاً، شروط إجرائية ثلاثة حددها دستور 2014 للاعتراف بنفاذ هذه القوانين من تاريخ صدورها. لن نتوقف الآن عند رأينا بعدم دستورية عشرات القوانين التى أصدرها الرئيسان المؤقت والمنتخب لفقدان شرط مبررات السرعة فى إصدارها أو لعيوب موضوعية، ولكن دعونا نتوقف الآن عند القوانين المكملة للدستور المتعلقة باستكمال خارطة الطريق وهى قانون انتخابات الرئاسة وقانون مجلس النواب وقانون تقسيم الدوائر وقانون مباشرة الحقوق السياسية. هذه القوانين صدرت جميعها بعد صدور دستور 2014، أى تسرى عليها المادة 156 من الدستور وفقاً لمبدأ النفاذ المباشر للنصوص الدستورية. وسيترتب على انعدام هذه القوانين نتائج كارثية تحيق بالمستقبل السياسى للوطن، منها: بطلان انتخابات رئيس الجمهورية، لأنها ستكون قد استندت إلى قانون منعدم، وبطلان انتخابات مجلس النواب لنفس السبب، وسنجد أنفسنا فى فراغ دستورى يعود بنا إلى حالة واقعية من حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة. تلك هى النتيجة الأولى التى تتمثل فى حدوث انهيار سياسى وتشريعى بالبلاد لا لشىء إلا لرغبة بعضنا فى إعلان الولاء ولو على حساب مستقبل الوطن. دعونا نناقش الحجج المتهافتة التى يروج لها دعاة عدم عرض القرارات الرئاسية بالقوانين على مجلس النواب. يقول أصحاب هذا الرأى، إن المادة 156 من الدستور «لا تنطبق على البرلمان المقبل، لأن هذه المادة تخاطب ظروفاً عادية وطبيعية بها سلطتان تنفيذية وتشريعية ثم تم حل البرلمان، أو أن البرلمان فى عطلته لكننا الآن فى مرحلة انتقالية لم تنته، وأن هذه القضية أثيرت فى الكويت عندما عطلت الحياة النيابية فى الفترة من 86 إلى 92 وحكمت المحكمة الدستورية هناك بأن مراسيم الأمير التى أصدرها فى غيبة البرلمان سارية ولا تُعرض على البرلمان». وأرجو من القارئ غير المتخصص فى القانون الصبر على بعض المصطلحات القانونية، فالأمر متعلق بمستقبل مصر الذى يستهين به البعض رغباً ورهباً. دعونا نستعرض معاً النص الدستورى الراهن والنصوص المماثلة فى الدساتير السابقة وآراء الفقهاء الذين يُعتدّ برأيهم لمحاولة رسم خارطة للطريق يتعامل بها البرلمان مع القرارات الرئاسية بالقوانين التى صدرت بعد صدور دستور 2014. أقول «بعد صدور دستور 2014» لأن الإعلان الدستورى الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 30 مارس 2011 والذى كان يمثل دستور المرحلة الانتقالية، كان يعطى فى المادة 56 منه سلطة التشريع أصالة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. فالقرارات بالقوانين الصادرة عن هذا المجلس كانت باعتباره صاحب سلطة التشريع أصالة فى غيبة البرلمان. أما دستور 2012 فقد أناط مهمة التشريع بمجلس الشورى عند حلّ مجلس الشعب ويحل محلهما رئيس الجمهورية فى غيبة المجلسين، فنصت المادة 131 منه فى فقرتها الثانية على أنه «عند غياب المجلسين، إذا طرأ ما يستوجب الإسراع باتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، يجوز لرئيس الجمهورية أن يصدر قرارات لها قوة القانون، تُعرض على مجلسى النواب والشورى، بحسب الأحوال، خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انعقادهما، فإذا لم تُعرض، أو عُرضت ولم تُقرّ، زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها عن الفترة السابقة، أو تسوية ما ترتب عليها من آثار بوجه آخر». وهو نص مقارب للنص الذى تبناه دستور 2014. دعونا أيضاً نستعرض كيف تناولت دساتير مصر السابقة هذا الأمر. نصت المادة 41 من دستور 1923 على ما يلى: «إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد البرلمان ما يوجب الإسراع إلى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، فللملك أن يُصدر فى شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون بشرط ألا تكون مخالفة للدستور. ويجب دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادى وعرض هذه المراسيم عليه فى أول اجتماع له، فإذا لم تُعرض أو لم يُقرها أحد المجلسين زال ما كان لها من قوة القانون». أما دستور 1956 فقد نصت مادته 135 على أنه: «إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة، أو فى فترة حلّه، ما يوجب الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز لرئيس الجمهورية أن يُصدر فى شأنها قرارات تكون لها قوة القانون. ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الأمة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها، إذا كان المجلس قائماً، وفى أول اجتماع له فى حالة الحل. فإذا لم تعرض، زال، بأثر رجعى، ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة إلى إصدار قرار بذلك. أما إذا عُرضت ولم يُقرها المجلس زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها فى الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على آثارها بوجه آخر». وتضمن دستور 1971 فى مادته 147 حكماً مفاده أنه «إذا حدث فى غيبة مجلس الشعب ما يوجب الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز لرئيس الجمهورية أن يُصدر فى شأنها قرارات تكون لها قوة القانون، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها إذا كان المجلس قائماً، وتُعرض فى أول اجتماع له فى حالة الحل أو وقف جلساته، فإذا لم تُعرض زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون دون حاجة إلى إصدار قرار بذلك، وإذا عُرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها فى الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على آثارها بوجه آخر». والمتأمل فى هذه النصوص الدستورية المتعاقبة يجد أنها قد اتفقت على بعض الأمور واختلفت فى أمور أخرى.
ما اتفقت عليه هذه النصوص أن سلطة رئيس الدولة فى إصدار تشريعات الضرورة محكومة بشرطين: أولهما غيبة البرلمان صاحب السلطة الأصيلة فى التشريع، وثانيهما وجود ضرورة لإصدار التشريع لاعتبارات لا تحتمل التأخير، على أن يمارس البرلمان عند انعقاده اللاحق رقابة على هذه التشريعات، وهى من قبيل الرقابة التى يمارسها الأصيل على تصرفات الوكيل. ثم اختلفت بعد ذلك الدساتير فى عدة أمور: أهمها فهمها لحالات غيبة البرلمان، فدستور 1923 تحدث عن حالة واحدة متصورة لغيبة البرلمان هى أن يكون البرلمان فى غير دور الانعقاد، أى أن يكون البرلمان موجوداً ولكنه فى فترة إجازته. وربما يفسر هذا إفراط الملك فى حل البرلمان حتى ينفرد بسلطته التشريعية المطلقة.
أما دستور 1956 فقد استحدث حالة حل البرلمان كحالة تبرر للرئيس استخدام سلطة التشريع بقيود وشروط وضوابط، وهو أول دستور استحدث مهلة خمسة عشر يوماً التى يلتزم فيها البرلمان بتقرير مآل التشريعات الرئاسية. ثم كان دستور 1971 أكثر حصافة من سابقيه عندما استخدم عبارة «غيبة البرلمان» سواء أكانت هذه الغيبة لأن البرلمان كان بين أدوار انعقاده أو منحلاً أو غير ذلك. ثم جاء دستور 2014 ليستخدم تعبيرين يعطى بمقتضاهما للرئيس سلطة التشريع إذا توافرت شروط الاستعجال «فى حالة حل البرلمان أو إذا لم يكن البرلمان قائماً». فإذا لاحظنا أن هذا الدستور قد دخل حيز النفاذ ولم يكن البرلمان قائماً لأنه لم يكن قد انتُخب بعد، فلابد أن المشرّع الدستورى كان معنياً بمواجهة هذه الحالة التى نتحدث عنها الآن: أى حالة ممارسة الرئيس لسلطة التشريع بعد إقرار الدستور وقبل انتخاب البرلمان، أى أن البرلمان القادم لابد فى نظر المشرع الدستورى أن يناقش ويوافق على هذه التشريعات خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انعقاده. والقول بغير ذلك معناه أن المادة 156 من دستور 2014 لغو ينزه عنه المشرّع الدستورى كما تعلمنا فى السنوات الأولى لدراسة القانون. الحجة التى يرددها البعض وهم أول من يعلمون زيفها، أن نص المادة 156 من الدستور لا يُطبَّق على التشريعات التى أصدرها الرئيسان ولا تعرض على مجلس النواب، لأننا فى مرحلة انتقالية وفى ظروف غير عادية، وأن هذه المادة وضعت لمواجهة وضع دائم، هذه الحجة لا تستقيم أمام أى منطق قويم، لأنها تتجاهل مجموعة من الحقائق الواضحة كالشمس. الحقيقة الأولى مبدأ النفاذ المباشر للنصوص الدستورية.
فالدستور ينفذ من تاريخ موافقة الشعب عليه، وفقاً لنص الدستور ذاته. ولم يضع دستور ٢٠١٤ أحكاماً انتقالية للتشريعات التى تصدر عن رئيس الجمهورية بعد نفاذه. ولو شاء المشرّع الدستورى استثناء هذه التشريعات من حكم المادة 156 بعدم عرضها على البرلمان لنص على ذلك صراحة. الأهم من ذلك أن كل التشريعات الرئاسية التى صدرت بعد نفاذ دستور 2014 قد استندت فى ديباجتها إلى نصوص دستور 2014 «راجع ديباجة القرار بقانون انتخابات الرئاسة رقم 22 لسنة 2014 والقانون رقم 92 لسنة 2015 بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية والقانون رقم 45 لسنة 2014 بمباشرة الحقوق السياسية وقانون مجلس النواب رقم 46 لسنة 2014 والقانون رقم 202 لسنة 2014 بشأن تقسيم الدوائر وتعديلاته»، فكيف يستقيم أن يستند التشريع الرئاسى إلى نصوص الدستور النافذ ثم نقول بجواز مخالفة هذا التشريع نصوص هذا الدستور بحجة أننا فى مرحلة انتقالية؟
ومن عجب أن يستند البعض إلى ممارسات دستورية غير ديمقراطية فى دول خليجية كانت محل نقد من الفقه العالمى عدا فقهاء أمراء النفط. لا أريد أن أخوض فى الحديث عن ذلك ولكن حسبى أن أحيل إلى كتاب «ناثان براون» الذى قمت بترجمته بعنوان «دساتير من ورق» والذى يتعرّض فيه للممارسات الدستورية الزائفة فى مصر ودول الخليج. أحذر مرة أخرى إبراءً للذمة، رغم أن أغلب التشريعات الرئاسية التى صدرت بعد نفاذ دستور 2014 «ما عدا تشريعات الانتخابات النيابية والرئاسية ومواجهة الإرهاب» هى تشريعات غير دستورية لافتقارها شرط وجود مبررات عاجلة لإصدارها، وهناك أحكام بذلك من المحكمة الدستورية، ورغم أن بعض التشريعات الأخرى معيب دستورياً لعيوب موضوعية، فإن عدم عرض التشريعات الرئاسية كلها وعدم مناقشتها والموافقة عليها أمام البرلمان القادم ينزل بها إلى مرتبة العدم. وسيترتب على ذلك ضمن ما يترتب بطلان انتخابات الرئاسة ومجلس النواب ونعود إلى نقطة البدء.
وللخروج من هذا المأزق، فإن الحديث المسؤول هو ذلك الذى صدر عن رجال قانون يُخلصون القول ويحترمون ضميرهم القانونى، الحديث يكون عن التكييف القانونى لمهلة الأيام الخمسة عشر التى يجب أن يوافق فيها البرلمان على هذه التشريعات: هل هى موعد تنظيمى يجوز تجاوزه أم موعد الزامى؟ أحيل هنا إلى رأى الأستاذ الدكتور يحيى الجمل والأستاذ الدكتور فتحى فكرى اللذين ذهبا إلى أن هذه المهلة غير ملزمة، فهى موعد تنظيمى يمكن تجاوزه ولو من قبيل النزول على اعتبارات الضرورة، فليناقش البرلمان المقبل هذه التشريعات الرئاسية على مهل، دون حاجة إلى مخالفة الدستور ودون حاجة إلى استلهام تجربة دول الخليج للتنصل من لزوم ما يلزم. والله من وراء القصد..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الإلكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة