لم ترتقِ حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إلى توقعات معظم المؤيدين لها، في الداخل والخارج، لكنها لم تستقطب بعد السخط عليها من الشارع العراقي والمؤيدين السابقين لها، إلا أن هذا لا يبدو بعيداً إن بقيت الأمور تدار على هذه الشاكلة. كان كثر يعوّلون عليها لحل مشكلتي الأمن والاقتصاد، لكنها لم تتمكن. وعلى رغم الدعم الذي حصلت عليه حتى الآن، داخلياً وخارجياً، فحكومة العبادي لم تقضِ على الفساد أو تقلّصه، ولم تحرك الاقتصاد أو تحدّ من تباطئه، ولم تحقّق الأمن أو تحدّ من تدهوره.
ففي أواخر عهد حكومة نوري المالكي، سيطر «تنظيم الدولة» على الموصل، ثاني أكبر محافظة في العراق، وكان أحد أهم الأسباب التي استند إليها دعاة التغيير في قيادة الحكومة هو الإتيان بمن يمتلكون القدرة على ضبط الأمن وتحرير الموصل وتحريك الاقتصاد في ظلّ تدنّي أسعار النفط، وكان مُعَوَّلا على حيدر العبادي أن يفعل ذلك، لكن بعد عام تقريباً على وجوده في السلطة، فقدت الدولة السيطرة على مدينة مهمة أخرى هي الرمادي (قبل أن يعاد تحريرها أخيراً)، ما تسبّب بخلق كارثة إنسانية جديدة وعزّز وجود هذا التنظيم الإرهابي في العراق، وجعل عراقيين كثراً يفقدون الثقة بقدرة الحكومة على إدارة البلاد ويبحثون عن خيارات أخرى.
من أهم واجبات الحكومة، تعزيز ثقة المواطنين والمستثمرين بالمؤسسات الأمنية والاقتصادية، إلا أن هذا لا يحصل حالياً. ففي كل فرصة تتاح للحكومة لزرع الثقة بين الناس وطمأنتهم بأن الأمور تسير نحو الأفضل أو تحت السيطرة، نرى المسؤولين يفصحون عن معلومات تترك أثراً مغايراً. وزير المالية قال لوسائل الإعلام قبل فترة، إن الأمور وصلت بنا إلى أن ندير الأمور في شكل يومي! أي ليست لدينا خطط طويلة الأمد. كان الراحل أحمد الجلبي يردد دائماً أن «العراق بلد ثري لكنه يمر بأزمة سيولة»، وهذه هي الحقيقة، لكن أزمة السيولة لن تُحل إن لم يتوَلَّ الإدارة الأكفاء وأهل الخبرة.
هناك الآن سعي جدّي في كردستان الى الانفصال، خصوصاً مع تناقص المنافع التي يحصل عليها الإقليم من البقاء ضمن العراق، في ضوء تدنّي أسعار النفط وتدهور الاقتصاد. وفي البصرة، هناك مساعٍ جدية لإعلان المحافظة إقليماً للحصول على قدر كاف من مواردها المالية التي توزّع حالياً على محافظات العراق الأخرى ويلتهم معظمها الفساد، بينما تعاني البصرة الإهمال، إذ ينعدم فيها الماء الصالح للشرب أو أي استخدام آخر، وتتراكم فيها النفايات، بل توجد الآن مناطق تنبعث منها الروائح الكريهة طول الوقت، ما يجعل الحياة صعبة جداً إن لم نقل مستحيلة، بينما أصبحت الأنهر التي تخترق وسط المدينة والتي كانت تضفي عليها جمالاً وخصوصية، مكباً للنفايات ومستقراً للمياه الآسنة ومصدراً للحشرات والذباب والتلوّث بسبب انقطاع المياه الجارية عنها، في وقت اكتسحت الملوحة المنطقة الجنوبية برمتها بسبب انقطاع المياه العذبة القادمة من أنهر الفرات والكارون والكرخة عنها، والتي كانت تصبّ في شط العرب وتكبح وصول المياه المالحة المنطلقة من الخليج إلى العراق. أما الآن، فتأثير المياه المالحة تجاوز البصرة إلى الناصرية والعمارة، وتسبّب بقتل النباتات والأسماك والأحياء الأخرى.
الأمن في البصرة لم يعد مستتباً كما كان، إذ تدهور كثيراً في الآونة الأخيرة، وتعرّض العديد من الأشخاص للاغتيال أو الخطف على أيدي عصابات الجريمة المنظمة. وعلى رغم أن الشرطة المحلية تمكنت من إلقاء القبض على عدد من عصابات الجريمة المنظمة في المحافظة، فالحاجة ما زالت قائمة الى طمأنة السكان إلى أن الأوضاع غير مقلقة.
أما في الموصل، فكثر من سكانها، وعلى رغم الظروف القاسية التي يعانونها في ظل حكم تنظيم «الدولة»، أصبحوا يخشون الانتقام في حالة تحرّر المحافظة من حكم التنظيم وعودتها إلى العراق، إذ يظنّ بعضهم أن هناك من العراقيين من يلومهم على سقوط مدينتهم في أيدي مسلّحي تنظيم «الدولة». قد تكون هذه المخاوف مبالغاً فيها، وهي حقاً كذلك لأن العراقيين عموماً متعاطفون مع أهالي المناطق التي سقطت بأيدي الجماعات الإرهابية، لكنها موجودة، لذلك يجب طمأنة الأهالي في شكل أو بآخر إلى أن عودتهم إلى العراق ستكون أفضل لهم وأنهم في مأمن من أي انتقام أو تعسّف، بل سيكون هناك تعويض لما فقدوه من ممتلكات وفرص.
وإن تحرّرت الموصل ربما في ربيع العام المقبل، أي بعد مرور عامين على حكم تنظيم «الدولة»، فقد يكون بين سكانها من اقتنع بأفكار التنظيم أو اعتاد على أحكامه القاسية، خصوصاً أن التنظيم منع السكان من الاحتكاك بالعالم الخارجي، ما جعل أفكاره العنصرية والطائفية المتخلّفة تبدو طبيعية ومقبولة.
فهل لدى الحكومة خطة لمواجهة مثل هذه الاحتمالات، وهل ستواجهها بالحل الأمني فقط، أم أن هناك خططاً أخرى تعتمد على الإقناع والبرامج الثقافية؟
أما الرمادي، فأصبحت ساحة للقتال منذ مطلع هذا العام، وقد استبسل أهلها في الدفاع عن مدينتهم ضد الجماعات الإرهابية، وهذه الوقفة يجب أن تسجّل لهم وتستدعي وقوف العراقيين معهم بقوة بعد تحريرها، من أجل إعادة الحياة إليها وتعويض سكانها عن الخسائر الفادحة التي تكبّدوها.
غير أن الشكّ والخلاف السياسي يشكلان الأساس الذي تقوم عليه السياسة العراقية حالياً، والسبب هو عدم وجود أحزاب ديموقراطية عابرة للطوائف والقوميات والمناطق، أحزاب لا تتبنى أهدافاً ومواقف طائفية أو مناطقية أو عرقية، بل تنظر إلى الشعب العراقي كشعب واحد له مصالح مشتركة أهمها بناء دولة عصرية متماسكة مبنية على أساس المواطنة وحكم القانون. وحتى تنشأ مثل هذه الأحزاب الديموقراطية وتكسب ثقة الناس ويصوتون لها في الانتخابات، سيبقى العراق يعاني الضعف والتشتت، مهما كانت تشكيلة الحكومة التي تديره أو مدعياتها الوطنية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة