دقائق وتشابكت أيادى معظم الحاضرين بعضها ببعض وانطلقوا يرقصون الدبكة، تلك الرقصة التراثية المحببة للسوريين.
«اشرحى لى الخريطة» قالت لى صديقتى وهى تنظر إلى المجموعة أمامها، «أقصد خريطة السوريين» تضيف. أبدأ بشرح تمركز السوريين جغرافيا واختلاف مللهم فى سوريا مع التأكيد لها أن ما من منطقة أو مدينة سورية أحادية المذهب، فالبلد متنوع وتتداخل فيه المجموعات الدينية فى المدن والقرى والأحياء، حتى ولو طغت مجموعة عدديا على الأخريات فى بعض المناطق دون غيرها.
«لا لا، أقصد الخريطة التى أمامى هنا». أنظر فأرى أصدقائى يرقصون أمامنا الدبكة متماسكى الأيادى، يدورون على نغم مألوف للسوريين ويرفعون أقدامهم ثم يخبطونها على الأرض بمرح، أول شاب فى المجموعة يلوح بمنديل أحمر أمسكه بيده الحرة بينما أمسك بصديقه بيده الأخرى، وآخر شابة فى المجموعة تلوح بمسبحة ملونة وتمسك باليد الثانية بيد صديقة منهمكة هى الأخرى بمجاراة الإيقاع.
***
كنا فى عشاء غلب عليه الطابع السورى، على المائدة صفت أطباق اليالنجى (ورق عنب صيامى) والكبة والبابا غنوج، تبعتها حلاوة الجبن ذات النكهة المميزة والخاصة جدا، بعجينتها المصنوعة من السميد والجبنة والمحشوة بالقشطة. بعد العشاء، وتزامنا مع نقاش سياسى حاد حول الوضع فى سوريا، اقتحمت كلمات أغنية محببة حديث الضيوف، فتداخلت كلمات «عالهوارة الهوارة» مع كلمات «تقسيم سوريا»، وصدحت الحناجر بـ«سمرا وانا الحاصودى»، فى وقت تحدث فيه الضيوف الآخرون عن خطة فيينا وإمكانية نجاحها فى إخراج سوريا من الحرب.
دقائق وتشابكت أيادى معظم الحاضرين بعضها ببعض وانطلقوا يرقصون الدبكة، تلك الرقصة التراثية المحببة للسوريين، والتى ترتبط فى أذهانهم بذكرى المناسبات السعيدة، كالأفراح والأعياد، والتى يرقصها الشباب والشابات فى الساحات العامة فى القرى أيام الصيف.
«اشرحى لى خريطة الأصدقاء الموجودين، كل واحد من أى جزء من سوريا؟» قالت صديقتى الجالسة بقربى، لم أقم أنا لأشاركهم رقص الدبكة، فقد فضلت التأمل فى جمال الحركات وخفة الأجساد والأرواح، فى لحظة أحسست فيها أننى خارج المكان، بل خارج الأماكن الحالية جميعها. نظرت أمامى فرأيت مجموعة أصدقائى يحتفلون بصداقتنا، يرقصون متماسكى الأيدى، يلعبون على الكلمات فتنادى إحداهن: ناس بتمشى لقدام» ويرد عليها الصديق بجانبها «وناس بترجع لورا».
***
كيف أشرح هذه الخريطة الحية؟ من أين أبدأ؟ من جميلة الوجه والروح، صديقتى الإسماعيلية التى تقود مجموعة الرقص فترفرف فى فضائها كفراشة جبلية، أم صديقى الدرزى الذى أتى بالسويداء كلها إلى القاهرة، ففتح بيته وقلبه لنا وللمدينة؟ أم بالجميلة المسيحية التى ذكرتنى، وهى تقفز بخفة ثم تتحرك بدلال فى الدبكة، باحتفالات عيد السيدة العذراء فى مناطق الداخل السورى، حيث تمتد السهرة والدبكة حتى ساعات الصباح الأولى؟ ام صديقتى الكردية الساحرة بحركاتها المسرحية التى أشارت لى أن انضم إليهم؟ تأملت الحلقة من مكانى حتى رأتنى صديقتى العلوية التى نظرت إلى جالسة على الكرسى فقالت «شو إنتو أهل الشام ما بتعرفوا تدبكوا؟!» بالإشارة إلى أن أهل العاصمة يحبون وضع أنفسهم ضمن قوالب مرسومة وجدية تميزهم عن الآخرين، قوالب تحد من عفويتهم وخفة حركتهم، بالمقارنة خاصة مع انطلاقة أهل الجبل والساحل السورى عموما، المعروفين بانفتاحهم على الحياة وسلاستهم فى التعامل مع بعضهم ومع الآخرين أكثر من أهل مدن كبيرة كدمشق وحلب، حيث الضوابط المجتمعية أكثر صرامة، والرقص، تقليديا، يكون بثقل ورزان. هببت واقفة وانزلقت بيت صديقتين أمسك بيديهما وأدور وأدور فى حلقة سورية ملونة سعيدة، نحتفل بصداقتنا وبليلة أعطتنا بعضا من شىء ثمين نعلم أننا قد فقدناه.حاولت لاحقا أن أشرح لصديقتى جمال هذه الخريطة وروعة هذه المجموعة، لكنى وجدت نفسى غير قادرة على وصف حبى وانبهارى ببلد ظهر أمامى فجأة فى سهرة فى القاهرة، بلد لا أعرف إن كنت سأراه فى حلقة دبكة كهذه يوما فى الآتى من حياتى، خانتنى عواطفى فصمت، أتأمل أصدقائى وأشعر بمزيج غريب من الفخر واليأس. فالأخبار لا تبشر بتماسك البلد، والتطورات الميدانية إن دلت على شىء فهى تشى بأسوأ سيناريو على الإطلاق، وهو انقسام سوريا جغرافيا وفق خطوط يريدها الفرقاء مذهبية، تعطى لكل مجموعة منطقة هى أصلا تحت نفوذها منذ شهور عديدة. أو إن أردنا النظر بشكل أقل مؤامراتية، فعلى الأقل بدأ منذ فترة أفراد المجموعات المختلفة بالعودة إلى مناطق يشعرون أنهم أغلبية فيها، أى الانسحاب من المدن أو المناطق المختلطة، والرجوع إلى حيث يشعرون أنهم مع أبناء ملتهم، يحيون فى أمان أكثر.
***
كيف يمكن لبلد يرقص الدبكة بهذه الروعة أن تنفرط حبات مسبحته بهذه الطريقة؟ كيف انكفأ كلٌ على مجموعته بحثا عن الأمان والحماية، بدل أن يشد على يد صديقه متمسكا به وبوجوده قربه؟ كيف أصبحنا رهائن مذاهبنا والسياسيين ممن نصبوا أنفسهم زعماء مجموعات دينية وهم فى الحقيقة باتوا زعماء حرب؟
«وراحت الأيام وشوى شوى... سكت الطاحون ع كتف المى... وجدى صار طاحونة ذكريات، يطحن شمس وفى...»
جلسنا جميعا نستريح بعد الدبكة ونسمع فيروز، نشعر فعلا أن ذكرياتنا يتم طحنها مع طحن البشر والحجر، سكتت ساحات القرى فى الصيف، وخفتت ثم اختفت ضحكات الأقارب يوم العيد، بهتت ألوان طفولتنا تماما كما تبهت الألوان فى الصور العائلية القديمة، حتى قد ترانا بعد سنوات نمعن النظر فى صورة التقطناها اليوم فى السهرة ونسأل «مين كان هاد؟ وين كنا هون؟ أى سنة اجتمعنا هيك ورقصنا الدبكة؟»
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة