والجواب هو بترسيخ مفاهيم العدالة التى لا ترفض فقط الظلم وإنما العدالة التى تمنع حدوث الظلم
فى مجتمعاتنا العربية نتكلم كثيرا عن أهمية ونبل التراضى فيما بين بعضنا البعض ونحاول ممارسة التراضى من خلال تعابير نمطية فيها الكثير من النفاق الاجتماعى أو الكثير من مخدرات الضمير الذى بطبيعته لا يرضى الظلم ولا يستطيع التعايش معه.
فمثلا، من التعبيرات النمطية ما يقوله أتباع المذاهب والطوائف الفقهية الإسلامية عن بعضهم البعض، من وجود أخوة دينية فيما بينهم مبنية على المحبة والاحترام والتراحم، وبالتالى عدم القبول بأن يقع الضرر على أتباع أى مذهب بسبب التمييز أو التهميش أو التسلط. وللتدليل على وجود تلك الأخوة المتفاهمة المحبة يتفاخرون بالتزاور فى مناسبات الزواج والأعياد والوفيات، وبالتزاوج فيما بينهم حتى ولو كانت النسبة لا تزيد عن خمسة فى المائة، وحتى لو كانت تجرى وراء الكواليس والأبواب المغلقة كل أنواع التساؤلات والشروط والاعتراضات والتحذيرات.
والأمر نفسه ينطبق على أصحاب الديانات أو الأصول العرقية أو الانتماءات القبلية والعشائرية المختلفة. هناك أيضا تعابير نمطية وادعاءات بوجود الأخوة والمحبة وعدم القبول بالتمييز أو الاستعلاء أو الظلم.
تلك التعابير قد تكون صادقة عند البعض القليل من أصحاب الضمائر والأخلاقية الإنسانية والاستنارة الاجتماعية.
لكن قلب موضوعنا ليس فى وجود أو عدم وجود تلك التعابير الأخوية وتبادل المجاملات والزيارات، بل وحتى انتشار وقبول التزاوج بنسب كبيرة.
كل ذلك حدث عبر تاريخنا بنسب مختلفة فى كل أقطار الوطن العربى ودون استثناء. لكنه لم يمنع طغيان فئة على فئة من خلال سياسات الاستئثار بالمال والسلطة والجاه والامتيازات الظاهرة والخفية، وبالتالى لم يمنع تفجر الصراعات الدينية والطائفية والقبلية، ووصول بعضها إلى حالات الحروب الأهلية.
الموضوع هو كيف الوصول إلى مجتمع فيه تعدد دينى ومذهبى وعرقى ولغوى وثقافى، ولكنه مع ذلك مجتمع ينعم بالسلام الأهلى دون حاجة لممارسة سياسات التراضى التى وصفنا، القائمة على النفاق والتعابير النمطية المخادعة والكاذبة أحيانا، والتى لا تمنع حدوث الصراعات والانفجارات وقيام النظام السياسى الفئوى المتسلط. وبمعنى آخر جعل التعدد الدينى والمذهبى والثقافى مصدر إغناء لحياة المجتمع ومصدر تفاعلات تدفع بالمجتمع إلى السمو والتحضر.
***
والجواب هو بترسيخ مفاهيم العدالة التى لا ترفض فقط الظلم وإنما العدالة التى تمنع حدوث الظلم.
ونحن هنا لا نتحدث عن وجود حاكم عادل فى بيئة ظالمة وفاسدة وتمييزية، وإنما نتحدث عن وجود نظام عادل فى مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال احتواء مفهوم العدالة على أجوبة محددة بشأن قضايا من مثل الحرية والمساواة وحقوق الإنسان وواجباته والمواطنة وتوزيع الثروة وتبادل السلطة وشرعية القوانين وعلاقات السلطات الثلاث ببعضها البعض إلخ.
بالنسبة لنا كعرب فإن هذا الطرح بهذا الشكل مهم للغاية، إذ إن تراثنا انشغل بمواضيع العدالة الإلهية، وبالتالى أصبح العدل مساويا فقط لتطبيق الشريعة وعدم الخروج عن نصوصها، كما انشغل بصفات الحاكم العادل، بينما أهملت الأسس النظرية للعدالة والتنظيمات الضرورية لتواجدها حتى تتواجد كممارسة فى الحياة اليومية المجتمعية.
من هنا فإن علاج تلك الصراعات والمشاحنات التى وصفنا، إذا كان سيأتى عن طريق إرساء دعائم العدالة، فإنه يجب أن يستفيد من المناقشات الغنية العصرية حول العدالة، والتى تشترط على الأقل وجود المكونات والمضامين التالية:
1. المساواة فى الحقوق والواجبات، بما فيها المساواة فى الفرص والمساواة بين الرجل والمرأة، بصور نسبية بالطبع، ولكن مرتبطة أشد الترابط بمبادئ التكافل والتراحم والخير العام.
2. العدالة الاجتماعية التى تقوم على توزيع عادل للثروة ومنع وجود فوارق كبيرة بين الأغنياء والفقراء ومنع استغلال جهد الآخرين من قبل أية أقلية، ورفض التمييز فى الفرص الحياتية.
3. علاقات سياسية واجتماعية قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، وشرعية القوانين وتساوى الجميع أمامها وانفاذها من قبل قضاء نزيه، واستقلال وحيوية المجتمع المدنى بعيدا عن أية هيمنة، واحترام لشتى أنواع الحريات الفردية والجمعية فى التعبير والتجمع وغيرهما.
وجود مثل تلك العدالة، المقننة لتلك النقاط الأساسية، هو الكفيل بانتقالنا من ممارسات التراضى والمجاملات إلى ممارسة العيش المشترك بسلام وطمأنينة وأخوة حقيقية فى المواطنة والإنسانية.
وهى عدالة منسجمة إلى أبعد الحدود ومكملة للعدالة الإلهية التى نادت بها جميع الشرائع السماوية، كيف لا ورب العالمين هو العدل المطلق.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة