فكرة شائعة أن مصر بلد الطغيان أى أنها لا تسير إلا بحاكم طاغية يضبط حركتها وينظم شعبها. وهى أرض النفاق.
فكرة شائعة أن مصر بلد الطغيان أى أنها لا تسير إلا بحاكم طاغية يضبط حركتها وينظم شعبها. وهى أرض النفاق. وهى الوسيلة التى تعوّد الشعب على مقاومة الطغيان. معه فى الظاهر، وضده فى الباطن. مصدرها النيل والوحدة المركزية للبلاد. وقد يكون مصدرها الحكم الفرعونى طوال تاريخها الطويل. وعندما يُقال فراعنة مصر، يشمل ذلك القدماء والمحدثين.
وينتج عن ذلك آليا غياب الديمقراطية لأن الطاغية يقرر بنفسه باعتباره مخلصا للبلاد. ولا يستشير إلا عصابته. بل إن المفهوم نفسه يغيب. حكم الشعب أم حكم الطاغية؟ وإذا حضرت فإنها تتعثر بالجيش أو المؤسسة الدينية أو رجال الأعمال أو الأحلاف الخارجية مع الدولة الكبرى للبحث عن سند خارجى بعد أن فقد التدعيم الداخلى، حتى ولو كانت إسرائيل، العدو التاريخى للعرب والتى مازالت تحتل فلسطين 1948 الهجرة، وفلسطين 1967 الاستيطان. وقد تعثرت الديمقراطية قبل ثورة 1952 بالرغم من الإطلاق عليه «العصر الليبرالى» لسيادة طبقة الباشوات والباكوات ورجال الأعمال على الحكم، واضطهاد المعارضة واغتيال زعمائهم أو إعدامهم فى وقت كان الصراع على السلطة فيه حادا بين الضباط الأحرار. وامتد الصراع إلى الوفد ومصر الفتاة. ثم وقعت الواقعة 1954 بالصراع بين الضباط الأحرار والإخوان. ودخل الإخوان السجون والمعتقلات، وأعدم عبد القادر عودة، القانونى البارز. وظل الصراع دائرا ومكتوما حتى تأميم القناة فى 1956. فتحول عبدالناصر من عدو للديمقراطية على عكس محمد نجيب إلى بطل قومى. والتفت الفصائل السياسية حوله دفاعا عن بورسعيد، فطالب المعتقلون بإخراجهم من السجون من أجل ذلك. وبعد الانتصار عادوا إلى السجن من جديد، فالخلاف مع عبدالناصر خلاف حول الديمقراطية وليس حول الوطنية.
وقامت الحركة الوطنية بتمصير الشركات الأجنبية، ودفعت الحركة القومية إلى الاتحاد مع سوريا عام 1958 فى الجمهورية العربية المتحدة، ومع سوريا والعراق عام 1958، وقوانين يوليو الاشتراكية عام 1961، وحرب اليمن 1964. وبالرغم من هزيمة يونيو- حزيران 1967 قام الضباط الأحرار فى ليبيا على نموذج مصر بالقضاء على الملكية والانتساب للقومية العربية بنفس النمط فى الحكم، حكم البطل المنقذ مثل مصر والعراق وسوريا واليمن. وأصبحت البطولة مطمحا لكل ثائر فى الوطن العربى.
ثم حدثت الخيانة. انقلب من أتى بعد ناصر عليه. واعتقل أنصاره. وتحول داخليا من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وخارجيا من معاداة الاستعمار وإسرائيل إلى التحالف بينهما. وضج الطلبة فى مظاهرات عارمة فى ميدان التحرير معتصمين فيه 1971-1972 حتى اضطر النظام إلى الدخول مع سوريا فى حرب أكتوبر 1973 حيث سطّر الجيش المصرى روائع البطولة والفداء. وعبر قناة السويس. وتوقف عند المضايق. مما دفع جيش العدو إلى العبور من سيناء إلى الجهة الأخرى ومحاصرة الجيش الثالث. وانتهت الحرب بمفاوضات السلام مع إسرائيل برعاية أمريكا وأجبرت القوات المصرية على سلب انتصارها فيها. وأصبحت سيناء منزوعة السلاح. ثم بعد ذلك سنت قوانين الانفتاح الاقتصادى 1974، ثم وضع المنابر السياسية عام 1976، يمين ويسار ووسط. وكلها منابر حكومية تؤيد النظام بطريقة أو بأخرى بعد أن كسب حرب أكتوبر 1973. وشهدت مصر بعضا من الحرية والديمقراطية حتى اغتيال الرئيس عام 1981، وتولى آخر مثله، يسير على نهجه، بالإضافة إلى استشراء الفساد فيه وفى أهله وصحبه. كانت الديمقراطية فى هذا العصر مزيفة، والانتخابات مزورة، والمخابرات العامة هى التى تسيطر على كل شىء. والمسرح يُعد للتوريث وهو ضد الديمقراطية لأن شرعيته تأتى من الذرية وليس من انتخاب الشعب.
ثم قامت الثورة الشعبية، وهنا لم تنجح السلطة الدينية فى إقامة تآلف تحقيقا لشعار «مشاركة لا مغالبة». كان الحكم أحادى الطرف، من هنا أو من هناك. لا يقبل أن يشاركه أحد. واستمر الصراع بين أهم قوتين فى البلاد، الإسلامية والعسكرية. كل منهما يستفرد بالحكم إلى درجة سفك الدماء. وتغير نظام الحكم من الإسلامى إلى العسكرى وقُدم أنصاره إلى المحاكم، واتهم بالخيانة. وانتقل الرئيس من القصر إلى المعتقل منتظرا نقله إلى القبر. وظل الصراع التقليدى بين موسى وفرعون، بين الديكتاتورية الدينية والديكتاتورية العسكرية. هى ثقافة الفرقة الناجية المسؤولة عن ذلك، أن كل الفرق مهلكة العاقبة. قامت الثورة الشعبية ولكنها سرعان ما أجهضت حتى تحولت إلى ثورة مضادة تعتقل الشباب الذين قاموا بالثورة. ويسترد النظام السابق قواه، الحزب الوطنى، ورجال الأعمال بل ومجموعات الفساد الذين مازالوا فى الحكم. وضاعت الأحلاف الأولى واشتد الاستقطاب بين موسى وأخيه وبين فرعون.
ومصر أكثر البلاد ذكرا فى القرآن الكريم، خمس مرات، وأكثر من المدن مثل بكة والأقوام: مدين ولوط وإبراهيم. وأكبرها بنو إسرائيل. ومن البقاع ذُكر المسجد الأقصى والمسجد الحرام. ويطلق حب مصر على الثقافة الشعبية. فهى أم الدنيا، «مصر التى فى خاطرى وفى فمى» أو الأغنية الشعبية «أصله ماعداش على مصر» وكما أنشد الشعراء كتب المؤرخون «شخصية مصر» والأدباء «سندباد بحرى» و«حدوتة مصرية». ومن يحصل على الأغلبية هو حزب «فى حب مصر». وطغت الشهادة فى ثقافة يغلب فيها مفهوم الشهادة. يبغى الله به شرا ومن أرادهم بسوء. وفى الحديث «إذا فتح الله عليكم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض وشعبها مرابط إلى يوم القيامة» ولا ريب من تزوج الرسول من مصرية مسيحية (مارية القبطية) لبيان أواصر القربى بين العرب والمصريين. وقد زار كثير من الأنبياء مصر مثل موسى ويوسف.
وقد ورد بالقرآن لفظ مصر «خمس مرات»، أربعا مع فرعون، بلد الأمان والطغيان. وهذا ليس تفسيرا نظريا بل مطابقة التجربة الحية للمصرى مع النص، وهو ليس تفسيرا نظريا للمعرفة بل تفسير عملى للسلوك الفردى والاجتماعى. هى مكان للإيواء فيها وليست مكانا للهجرة منها. والحنين إليها مهما هاجروا ووجدوا أوطانا بديلة عن مواطن الاضطهاد.
وهو نقد سياسى لنظام الحكم. ويتم ذلك عن طريق الوحى أى عن طريق النقد الاجتماعى. فالوحى تغير للواقع وليس فقط نزولا من السماء. الوحى له وجهان: وجه إلى السماء وهو ما يوضع بين قوسين بكل ما فيه من غيب. ووجه متجه إلى الأرض بكل ما فيها من ظلم نتيجة للأوضاع السياسية والاجتماعية. والثالث والرابع والخامس معان إيجابية «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا» أى للإعمار بدلا من الصحراء. وقد كانت صفقة البيع والشراء ليوسف «وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ». ومصر بلد الأمن والأمان بالرغم من كل ذلك «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ». وفى نفس الوقت يأتى الناس إلى مصر ليعيشوا ويستقروا فيها «اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ»، كما نشاهد الآن هجرة السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين. وبالرغم من ذلك كله فإن مصر بلد الأمن والأمان وليس قوات الأمن وزوار الفجر. وهو ما ينطبق على كل مصر. واليابان تتوحد مع الإمبراطور. والمغرب العربى تتوحد مع الملك. والسعودية ودول الإمارات تتوحد مع أمرائها وأميرها الذى وحدها. والسعودية الملكية جزء من تاريخها. فهى التى وحدت القبائل. والولاء للعرش باسم الدين «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، الله الملك، الوطن، وينتهى هذا الثلاثى بالولاء للملك.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الإلكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة