فى بداية التسعينيات من القرن الماضى ظهر تقرير عن التنمية البشرية فى العالم العربى يرصد تدنى حال الترجمة بالمقارنة بالأمم الأخرى
فى بداية التسعينيات من القرن الماضى ظهر تقرير عن التنمية البشرية فى العالم العربى يرصد تدنى حال الترجمة بالمقارنة بالأمم الأخرى.
وكان يعرض إحصائيات مهينة كأن يذكر أن دولة مثل اليونان ، على صغر عدد سكانها، تترجم فى العام أكثر مما تترجمه الدول العربية مجتمعة. أو أن دولة مثل إسبانيا تترجم فى عام أكثر مما يترجمه العرب فى قرون. لا ندرى مدى صدق هذه الاحصائيات ولكنها كانت إحصائيات صادمة للوعى العربي.كيف أهمل العرب الترجمة الى هذا الحد؟ وكيف تركوا جهود الرواد مثل الطهطاوى ولطفى السيد وطه حسين تذهب سدى؟ وأين ذهبت دور النشر فى بلاد الشام ومترجميها العظام؟ لم تكن المشكلة فى قلة عدد الكتب المترجمة، ولكن كانت الدلالة أعمق من ذلك. اذ كان يعنى ببساطة أن العرب قد أداروا ظهرهم للعالم وعكفوا على ثقافتهم الخاصة ينهلون منها ما يزيد من عزلتهم عن العالم ويدعم خروجهم من التاريخ.كيف استسلم العرب بهذه السهولة لثقافة محافظة تكره الترجمة والمترجمين. لقد فتحت وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم لتمجيد الثقافة الخاصة ورفض أى ثقافة أخرى. ولم يكن هذا الوضع يزعج أحداً، وانما كان الوطن هو الذى يغرق رويدا رويدا. كان الحال بالفعل يدعو إلى الاكتئاب.
فى عام 1995 عدت الى مصر بعد سنوات الدراسة فى فرنسا لأعمل مدرسا للفلسفة بكلية الآداب جامعة حلوان. اتصل بى أستاذى محمود أمين العالم وقال لى: الدكتور جابر عصفور يريد مقابلتك.. عليك أن تذهب إليه غدا فى المجلس الأعلى للثقافة. قابلت دكتور جابر، فطلب منى إعداد قائمة مطولة بعناوين الكتب المهمة فى مجال العلوم الإنسانية لترجمتها من الفرنسية الى العربية. خرجت وقد اعترانى شعور غامر بالسعادة.. اذ أحسست أننى شخص مهم، بلدى تنتظر منى الكثير. وها هم يلجأون اليّ لكى أقترح كتبا للترجمة من أجل النهوض بالوطن.. ويثقون باختياراتى. وبالرغم من أن تصوير الأمر على هذا النحو فيه مبالغة فى تقدير الذات لكنه أشعلنى حماساً.
وكنت وقتها التقى كثيرا من الأصدقاء لنتداول فيما بيننا الشكوى من أوضاع البلاد وأزمتها ذات المظاهر المتعددة، ونتطرق الى مايعيشه العالم حولنا من تطورات. وكان كل منا يشير الى كتاب مهم بلغة أجنبية قرأه ويزعم أنه مفيد فى فهم ما نتعرض له من موضوعات. بيد أنه لم يدر بخاطر أحد منهم فكرة أن يترجم هذا الكتاب. بل كان هناك مترجمون كبار فى الماضى وكفوا عن الترجمة لأنه لم يعد عليها طلب. وكنا قد تعودنا على قيام أساتذة الجامعة بالترجمة الى جانب قيامهم بالتدريس، ورأينا ترجمات عظيمة لعثمان أمين وعبد الرحمن بدوى وفؤاد زكريا وعبد الغفار مكاوي، وليعذرنى القارئ اذ ذكرت أساتذة فى المجال الذى أعرفه وهو الفلسفة، ولكن هناك بالطبع ترجمات مهمة لأساتذة آخرين فى مجالات الآداب والفنون والعلوم. ولكن خفت اسهامهم تدريجيا واكتفوا بالتدريس داخل أسوار الجامعة.
وفجأة تغير كل هذا، عاد كبار المترجمين يملأون حياتنا الفكرية انتاجا. وعاد اساتذة الجامعات يترجمون الكتب المهمة فى تخصصاتهم. أما الأصدقاء المهتمون بقضايا الوطن اعتبروا أن ترجمة الكتب المهمة لفهم العالم وإتاحتها فى يد القارئ العربى جزء من النضال من أجل وطن أكثر عدلاً وأكثر حرية. بدا الأمر وكأن هناك لمسة ساحر جعلت المشهد يفيض حيوية وحركة.
لقد بدأ الدكتور جابر عصفور فى تنفيذ المشروع القومى للترجمة. ظللنا شهورا تساورنا الشكوك فى جدية المشروع أو فى امكان تحقيقه رغم حسن نيات القائمين عليه. ولهذا كانت فرحتنا غامرة حينما صدر الكتاب رقم واحد وهو كتاب «اللغة العالية» تأليف جون كوين وترجمة الدكتور أحمد درويش. هاهو المشروع يتحقق فى أرض الواقع. وصار يفرض نفسه على أنه مشروع قومى بالفعل: فقد كان اختيار الكتب يتم لأهميتها الفكرية وليس على أساس احتمال رواجها فى السوق. وبدأ كل منا يعمل فى حماس لانجاز الترجمة التى اتفق مع الدكتور جابر عليها. لم يكن إنجاز الترجمة التزاما أخلاقيا بتنفيذ وعد او احترام لكلمة شرف فحسب وانما كان جهدا مشتركا وعملية إنقاذ لثقافتنا المعاصرة. وأسهم فى ترسيخ هذا الشعور ما كنا نراه من جهد يبذله فريق من الأصدقاء الذين يعاونون الدكتور جابر فى تنفيذ هذا المشروع، حيث كانوا يصلون الليل بالنهار ويعملون جميعا بروح مقاتلين فى مهمة قومية.
تحول المشروع القومى للترجمة فى مصر، لحسن الحظ، الى نموذج احتذته كثير من الدول العربية وهو أمر يسرنا لأنه يصب فى مصلحة القراء العرب ويخرجنا شيئا فشيئا من انغلاقنا على ثقافتنا الخاصة. كان المشروع القومى للترجمة جزءا من المجلس الأعلى للثقافة ثم تحول بعد ذلك الى مؤسسة مستقلة هى المركز القومى للترجمة. واليوم المركز القومى للترجمة مؤسسة راسخة فى المشهد الثقافى المصرى، ويمتد اشعاعها الى الوطن العربى بكامله. وعادت للمترجم قيمته ومكانته. وما كان ذلك إلا بفضل هذه اللحظة الحاسمة منذ عشرين عاما حيت تم تأسيس المشروع القومى للترجمة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة