استمرت الدراسة 75 عامًا تعاقب فيها الباحثون من أجيال متتالية. بدأ البحث عام ١٩٣٨ وشمل ٧٢٤ رجلًا كانوا في مقتبل حياتهم واستمر معهم.
هناك مونولوج قديم لإسماعيل ياسين يتساءل فيه: كلنا عاوزين سعادة.. بس إيه هي السعادة؟ قولّلي يا صاحب السعادة.
وبالطبع كانت إحدى أدوات السعادة التي تحدث عنها في المونولوج، المال، الهدف الأول لكل من يبحث عن السعادة، ثم اكتشف أنه لم يجلب له شيئًا منها.
والحقيقة أنني كنت أنزعج من هذا المعنى في الأفلام المصرية القديمة التي أكدت كثيرًا أن "الفلوس" لا تساوي شيئًا أمام راحة البال، ويأتون بالرجل الغني التعيس لتأكيد هذا المعنى، وغالبًا ما يكون مريضًا، بينما يتمتع بطل الفيلم الفقير بالصحة والشباب كما لو أن المرض لا يصيب الفقراء كما يصيب الأغنياء وأكثر، حيث غالبًا لا توجد بيئة صحية يعيش فيها الفقراء، وإذا ما أصيبوا بأي مرض ولو بسيطًا فإنه قد يصبح قاتلًا نتيجة الإهمال والافتقار إلى الرعاية الصحية المناسبة. كنت أرى أن الدراما والأفلام إنما تحاول أن تقنع الناس "الغلابة" بالاستسلام لما هم فيه وعدم التطلع إلى حياة أفضل من الممكن أن تُخلّ بالنظام الطبقي السائد، وهو أيضًا المعنى الذي لم أحبه في أغنية عبد الوهاب الشهيرة "ماحلاها عيشة الفلاح" التي يحسد فيها المسكين على الأرض البراح التي يتمرغ فيها وإن كانت ملكًا لغيره.
هذا الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على أن الأموال هي بالضرورة الطريق إلى السعادة لكني فقط لم أكن أحب الطريقة التي يتم بها تسويق الأمر للفقراء على أن الراحة والرفاهية عدو السعادة.
لكن المدهش هنا أن ما اكتشفه إسماعيل ياسين وصحبه منذ عشرات السنين هو ما توصلت إليه أطول دراسة علمية في التاريخ أجرتها جامعة هارفارد وتم تداوُل نتائجها مؤخرًا، حيث استمرت الدراسة خمسة وسبعين عامًا تعاقب فيها الباحثون من أجيال متتالية. بدأ البحث عام ١٩٣٨ وشمل ٧٢٤ رجلا كانوا في مقتبل حياتهم واستمر معهم ومع الأجيال الجديدة لأبنائهم وأحفادهم إلى اليوم. بالطبع توفّي الكثيرون ولم يبقَ منهم إلا نحو ستين شخصًا تجاوزوا التسعين من أعمارهم. كان منهم طلبة من عائلات غنية يدرسون في جامعة هارفارد، وكانت هناك مجموعة أخرى من أفقر أحياء مدينة بوسطن لشباب لا تتوافر لهم أبسط سبل الحياة، وتم تعقب كل هؤلاء الأفراد في حياتهم طوال هذه السنوات، وكان يتم اللقاء بهم وبأقاربهم بانتظام ومتابعة ظروفهم الصحية والاجتماعية وأوضاع العمل .. الخ. بعض أعضاء المجموعة الثانية من الفقراء انطلقوا لتحقيق نجاحات كبيرة، وآخرون من المجوعة الأولى أضاعوا كل شيء، وبينهما تباينت حظوظ الباقين بين النجاح والفشل. فماذا كانت النتيجة؟
يقول المشرف الحالي على الدراسة، البروفيسور روبرت والدينجر، إنهم توصلوا إلى حقيقة بسيطة وهي أن "العلاقات الإنسانية الجيدة تجعلنا أكثر سعادة وتجعل صحتنا أفضل".
لكن المهم في هذه العلاقات -كما يقول- ليس عددها وإنما عمقها وقوتها مع الأهل والأصدقاء والمجتمع المحيط، فهي لا تجعلنا فقط أكثر سعادة بل تساعد على طول العمر، وحتى عندما يتعرض الشخص لمشكلة صحية فإنه يكون قادرًا على مواجهتها وتحمّل الألم أكثر ممن يعانون الوحدة، حيث خلص إلى عبارة ربما استمعنا إليها مرارًا منذ صغرنا وهي أن "الوحدة تقتل". المؤسف أن عددًا متزايدًا من الناس يشعرون الآن بالوحدة أكثر من أي وقت مضي، وهم في أمريكا يُقدَّرون بنحو عشرين في المئة رغم كل أدوات التواصل الاجتماعي الإلكترونية مثل "فيسبوك" و"تويتر". فهي أدوات مفيدة بالطبع في تسهيل نوع من التواصل مع أناس ربما لم يكن من الممكن الوصول إليهم أصلا من دونها، لكن المشكلة أنها تحولت إلى بديل عن التفاعل الإنساني المباشر. فنحن ندخل إلى أي مكان لنجد عشرات الأشخاص ممن ينظرون إلى هواتفهم المحمولة دون أن يلتفت أي منهم إلى المحيطين به. هذه المشكلة ربما ستكون أكثر حدة مع الجيل الجديد من الشباب الذي بدأ حياته معتمدًا على تلك الوسائط الإلكترونية للتعامل مع البشر، وهم مثل الأجيال السابقة لديهم نظرة مغلوطة لمفهوم السعادة، حيث كشفت دراسة لـ"هارفارد" أيضا أن ثمانين في المئة من الشباب يبحثون عن الثروة بينما يعتقد خمسون في المئة أن الشهرة ستكون سر نجاحهم وسعادتهم.
لكن هؤلاء الشباب لن يهتموا كثيرًا بما أشارت إليه الدراسة من أن من وصلوا إلى مرحلة الثمانينيات من أعمارهم ويشعرون بالسعادة كان لديهم شيء مشترك مهم هو وجود شريك لحياتهم يمكنهم الثقة به والركون إليه.
الخلاصة: التأكيد والاهتمام بعلاقاتنا مع الآخرين والحرص على الاتصال بهم ليس منّة عليهم أو مجاملة لهم، لكنه أقرب ما يكون إلى بوليصة تأمين على السعادة التي نتمناها لأنفسنا، فالحياة قصيرة وما ندخله فيها من صراعات أو نحمله من ضغائن هو في النهاية على حساب صحتنا وسعادتنا. عبارة ما كنت أقولها في الظروف العادية باعتبارها إنشائية، إلى أن وجدت هذه الدراسة وقرأت ما قاله كبير الباحثين فيها فوجدت أنها أيضا علمية، وعدت أستمع إلى إسماعيل ياسين وهو يتساءل عن معنى السعادة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة