في هذا العام الجديد، تقع الذكرى الـ500 لمعركة مرج دابق، التي افتُتحت بها عثمنة المنطقة، كما تقع الذكرى الـ100 لمعاهدة سايكس-بيكو
في هذا العام الجديد، 2016، تقع الذكرى الـ500 لمعركة مرج دابق، التي افتُتحت بها عثمنة المنطقة، كما تقع الذكرى الـ100 لمعاهدة سايكس -بيكو التي افتتحت غربنتها. وكلٌّ من الذكريين ستجد، كما الحال دائماً، من يهلّل لها ويحتفل بها، ومن يحتجّ عليها أو يعتبرها اللبنة الأولى في نهاية العالم.
وهذا، في آخر المطاف، تاريخ المشرق الذي لم يصبح ماضياً ولا أصبح ذكرى، فاستمرّ فاعلاً بالتضامن مع تراكيب أهليّة ومنظومات سلطويّة نجمت عنه جزئيّاً وجزئيّاً رسّخت مفاعيله.
لكنْ ربّما كان العام الجديد هذا عام الحساب المزدوج الذي يطال التراكيب والتاريخ في آن معاً، والذي مهّدت له سنوات الانكشاف التي افتتحتها ثورات «الربيع العربيّ»، ثمّ فشلها وما لازمه من صعود «داعش». وهذا واقع يخيف بما يكفي، خصوصاً أنّ العالم والاستراتيجيّات الدوليّة ستضاعف ما ينطوي عليه الواقع وحسابه من خوف وإخافة.
وأغلب الظنّ أنّ تدبير المشرق، بعد انقضاء خمسة قرون عثمانيّة، وقرن فرنسيّ - بريطانيّ تخلّلته الاستقلالات على أنواعها، والأنظمة على أنواعها، سيكون عنوان العناوين.
لقد خلقت الذكريان أنماطاً بدئيّة ومثالات يُسعى إليها من غير نجاح يُذكر. فالامبراطوريّة لم تنجح حين حاولها الشريف حسين ونجله فيصل، وقد قدما إليها متأخّرين إذ كانت الامبراطوريّات، على نطاق كونيّ، تتصدّع. بعد ذاك جرت محاولات مصريّة وعراقيّة وسوريّة، بعضها أعاق تطوّرَ بلده وبعضها ترك بلده حطاماً وشعبه مزَقاً من بشر هائمين على وجوههم. وبدورها، لم تنجح الجمهوريّات الراديكاليّة، وكانت النهاية التعيسة للناصريّة بمثابة الانكسار الذي ارتطمت به الملحمة. لكنّ الجمهوريّات والملكيّات الوراثيّة، هي الأخرى، لم تنجح، وإن كان حظّها من الفشل أقلّ. وميتة نوري السعيد البشعة نشرت البشاعة الدمويّة رايةً لعشرات السنين المقبلة على المشرق. أمّا لبنان الطامح إلى شيء من التمايز عن النمطين العسكريّ والسلاليّ، فلاقى حتفه ولم يبق له غير توسّل ذاك الماضي وأسطرته. ولم ينجح كذلك تأجيل الحياة في انتظار إزالة إسرائيل، أو أقلّه إلحاق هزيمة كاسحة بها. فالحياة من صفاتها أنّها لا تستأذن حين تطرق الأبواب، وأنّها تطرق الأبواب مهما أوصدناها في وجهها. وفي مناخ قاتم كهذا، جاءت الخمينيّة تهبنا قضيّة فيما القضايا تذوي، وكانت كلفتها، ولا تزال، تفوق أكلاف تلك القضايا جميعاً.
وإذ تغيّرت في العالم مفاهيم، وجدّت علاقات اقتصاديّة وسياسيّة لم تكن معهودة، مثّلنا نحن المأتم الأكبر وسط هذه الأعراس. وفي مقابل كلّ جديد كنّا نستورده من عالم يزداد رحابة، رحنا نصدّر طغاة دمويّين لا يملكون ما تتطلّبه إدارة القرية أو الدسكرة من مواهب. ومن حافظ وبشّار الأسد إلى آية الله الخميني وصدّام حسين، ومن أسامة بن لادن إلى أبي بكر البغدادي، تلاحقت المساهمات التأسيسيّة لخراب عميم لا يمهّد إلاّ لخراب أعمّ.
وإذا صحّ أنّ تركيّا وإيران قد تفتتحان جولة جديدة، وتُنشب واحدتهما أظافرها في الأخرى، لم يبق إلاّ استدراج العروض لتدبير المشرق، وهو استدراج شديد الإلحاح يقابله الصدّ والعزوف أكثر ممّا يقابله استعداد العالم ورغبته. وعلى هذا النحو نمضي، علّ شيئاً من تلك القرون العثمانيّة الخمسة، أو من ذاك القرن الأوروبيّ، يقترح علينا مستقبلاً نجرّبه لأبنائنا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة