كانت تلك هي حسابات بريطانيا وإيطاليا، إلا أن ما لم تدركه الدولتان، أن علاقات دول «تشرب من نهر واحد» مختلفة
ففي ثلاثينيات القرن العشرين كان قد مر على احتلال بريطانيا لمصر 58 عاما، وهي نفس الفترة التي شهدت فيها الساحة الدولية تغيرات أدت ببريطانيا دولة الاحتلال في مصر- إلى أن تتجاوب مع أطماع إيطاليا الفاشية في توسيع مستعمراتها على حساب إثيوبيا، ولكي تبدأ روما سلسلة من التحرشات بأديس أبابا لافتعال مبررات للعدوان عليها، ومن ثم احتلالها.
طبائع الأمور كانت تقول بأن مصر المحتلة، لم يكن لها أن تستطيع الوقوف في وجه هذه التفاهمات الدولية، باعتبار أنه لم يكن يسمح لها بأن تصوغ سياسات خارجية معارضة للمواقف الأساسية لدولة الاحتلال وهي بريطانيا على المستوى الدولي، وبالتالي، فإن المنطق كان سيستقيم بأن تخضع مصر لذلك المخطط الذي استهدف احتلال إثيوبيا، وفي تلك الحالة لم يكن لأحد أن ينتقد القاهرة.
كانت تلك هي حسابات كل من بريطانيا وإيطاليا، إلا أن ما لم تدركه الدولتان، أن علاقات دول «تشرب من نهر واحد» مختلفة، وعلى هذا جرت الرياح في مصر بما لم تشته الدولتان الاستعماريتان، مع الوضع في الاعتبار أن المسالة بدأت برياح شعبية، تحولت في وقت قياسي إلى إعصار حرك مواقف رسمية مصرية متحدية لمواقف الدول الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا العظمى.
فبمجرد بدء التحرشات الإيطالية في العام 1930 بدأت الضغوط الشعبية في مصر على الحكومة لاتخاذ موقف مؤيد لإثيوبيا، وقد أخذت هذه الضغوط أشكالا عدة بداية من المسيرات ووصولا إلى المظاهرات التي عمت البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. نعم، فليس هناك خطأ مطبعي، امتدت المظاهرات العارمة من الإسكندرية حتى أسوان لمطالبة مصر الرسمية اتخاذ موقف حازم إزاء مؤامرة واضحة لاحتلال دولة الجوار المباشر إثيوبيا.
وقد أثمرت هذه الضغوط الشعبية عن قيام حكومة مصر بتخصيص مبنى في مدينة بورسعيد لحكومة الراحل جلالة الإمبراطور هيلاسيلاسي لكي يكون مقرا لقنصليتها. إلا أن هذا المبنى لم يكن كأي مبنى، كما أنه لم يكن يحتل أي موقع! فقد اختارت الحكومة المصرية مبنى يقع على المدخل الشمالي لقناة السويس، وهو ما كان لافتا للنظر؛ فالنشاط القنصلي يمكن أن يمارس من أي مقر داخل المدينة وليس على رأس القناة! في الوقت ذاته، فإنه لا حركة التجارة مع إثيوبيا ولا عدد رعاياها في تلك المنطقة من مصر كان يبرر إقامة قنصلية إثيوبية في تلك البقعة، ناهيك عن قيام الحكومة المصرية بمنحها مقرا وبالمجان.
الشاهد، أن الاختيار الدقيق لهذا المبنى قصد به في الحقيقة أن يكون موقعا للاستطلاع تستخدمه الحكومة الإثيوبية لرصد القطع البحرية الإيطالية المتوجه إلى الصومال الإيطالي وإريتريا للحشد العسكري تمهيدا للعدوان على إثيوبيا. بمعني آخر، تطوعت حكومة مصر في ذلك الوقت بمنح إثيوبيا محطة استطلاع استخبارية مجانا.
وبالطبع، فإن بريطانيا أدركت على الفور مغزى اختيار مصر مدينة بورسعيد مقرا للقنصلية الإثيوبية، وبالتأكيد فإنه لم يفتها انتقاء الحكومة المصرية لمبنى يطل على المدخل الشمالي لقناة السويس، إلا أنها لم تستطع أن تغير من هذا الواقع، وإن سجلت تحفظها على القرار المصري.
إلا أن المشكلة تمثلت في أن الحكومة المصرية لم تستطع أن تطلع الرأي العام على مغزى قرارها الخاص بمقر القنصلية المهدي للحكومة الإثيوبية، وبالتالي، فإن المظاهرات الشعبية تواصلت مطالبة الدولة بمواقف أكثر حدة للرد على العدوان الإيطالي الوشيك.
وقد تمثل المطلب الرئيسي في ذلك الوقت في قيام الحكومة إلغاء جوازات سفر العمال المصريين الذين كانت إيطاليا تستأجرهم للعمل في قواعدها العسكرية في شرق إفريقيا، كما طالبت المظاهرات الحكومة بإلغاء حقوق المرور الجوي للطائرات الإيطالية في أجواء مصر.
وبالرغم من استيائها من تلك التحركات، إلا أن حكومة بريطانيا اقتنعت بمنطق الحكومة المصرية بحتمية الاستجابة للمطالب الجماهيرية حتى لا يتحول الاحتجاج إلى حركة شعبية شاملة تضر بمصالح بريطانيا. وقد كان أن أصدرت الحكومة المصرية في العام 1930 قرارا بمنع الطائرات الإيطالية المتوجهة إلى شرق إفريقيا من عبور المجال الجوي المصر، كما أنها لم تكتف بإلغاء جوازات العمال والفنيين المصريين العاملين في القواعد العسكرية الإيطالية في شرق إفريقيا، بل إنها عوضتهم بتوظيفهم لديها.
إلا أن أعراض الحب المصري تجاه إثيوبيا لم تكن لتهدأ لمجرد تحقيق هذين المطلبين، بل انتقلت هذه الأعراض إلى الحكومة ذاتها، وقد تجلى ذلك في توجه عدد من الوزراء والسياسيين المصريين المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة بدوائر الحكم في بريطانيا، لاستخدام هذه العلاقات نفوذهم لدى لندن لإقناع حكومة جلالة الملك جورج الخامس بالضغط على إيطاليا لوقف تحرشها، وفيما بعد عدوانها ضد إثيوبيا. ومثال على الوزراء والساسة المصريين البارزين ممن زاروا بريطانيا خصيصا للدفاع عن قضية إثيوبيا عثمان محرم باشا. في الوقت ذاته، شكلت الكنيسة الأرثوذكسية وفدا رفيع المستوى وعلى رأسه أحد كبار الأساقفة، كما ضم الوفد شيوخا من الأزهر الشريف، وتوجه إلى الفاتيكان لمقابلة الكرسي الرسولي والدفاع عن قضية إثيوبيا، سعيا من مصر لدفع بابا الفاتيكان الضغط على زعيم إيطاليا في ذلك الوقت موسوليني للكف عن مخططاته الاستعمارية في الحبشة. وبالرغم من امتناع بابا الفاتيكان عن استقبال الوفد، فإن الوفد أصر على عدم الرحيل حتى أوفد البابا عددا من كاردينالاته للاستماع للوفد المصري وتسلم خطابا موجها للقاصد الرسولي. وقد اتخذت الكنيسة المصرية الأورثوذكسية تلك المبادرة بالرغم من معرفتها بتاريخ محاولات الفاتيكان من خلال إرسالياته اختطاف الكنيسة الارثوذكسية الإثيوبية – وكانت فرعا لكنيسة الإسكندرية المصرية – وتحويل قبلتها إلى روما. كانت مؤامرة احتلال إثيوبيا مخطط لها سياسيا في مقر الحكومة الإيطالية في روما، وبمباركة المقر البابوي في نفس المدينة، إلا أن ذلك لم يوقف مصر الرسمية والدينية من طرق هذا الباب المغلق؛ فالقضية متعلقة بمصير شعب كنا في مصر ومازلنا نحسبه شقيقا.
وعندما لم توقف هذه التحركات إيطاليا عن سعيها الشرير، وبدا أنها بصدد شن عدوانها بمجرد توقف موسم مطر عام 1935 في إثيوبيا، تطور الموقف المصري تطورا نوعيا على الصعيدين الشعبي والرسمي. ففي أغسطس من العام نفسه، قام الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين – مرة ثانية ليس هناك خطأ مطبعي، فأول جهة شعبية منظمة تأخذ خطوة فعلية في هذا المضمار كانت جمعية الشباب المسلمين وليس المسيحيين- بتأسيس جمعية ضمت كبار رجال الدولة ورجال الدين الإسلامي والقبطي، والعديد من المتخصصين في كافة المجالات لنصرة إثيوبيا.
إلا إن ذلك لم يكن نهاية ما بين «المصريين» الذين عبدوا النيل ذات يوم، وبين وإثيوبيا التي ينبع منها النهر
ونستكمل في المقال القادم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة