قبل أكثر من عامين بأيام، وفي هذه المساحة، كتبت (في 13 كانون الثاني/ يناير) 2014) عن حاجة المنطقة الملحة إلى ثلاثي سعودي- تركي- مصري.
قبل أكثر من عامين بأيام، وفي هذه المساحة، كتبت (في 13 كانون الثاني/ يناير) 2014) عن حاجة المنطقة الملحة إلى ثلاثي سعودي- تركي- مصري. لماذا برزت هذه الحاجة؟ حينها بدا لي الأمر على النحو التالي: هذه دول ثلاث تتوافر لكل منها عناصر يمكن أن تشكل أساساً لتكامل اقتصادي وسياسي بينها، وأن التنسيق بينها داخل مثلث إقليمي سيعيد إلى المنطقة شيئاً من التوازن بعد سقوط العراق وسورية، إلى جانب أنه سيشكل حاجزاً للدور الإيراني المدمر للعالم العربي، ومنطلقاً للتأسيس لحال من الاستقرار. تعكس الحاجة إلى هذا التحالف بطبيعة الحال التغيرات التي عصفت بالمنطقة منذ ما قبل ثورات الربيع العربي. آنذاك كانت فكرة تحالف دولة أو مجموعة دول عربية مع إحدى دول الجوار تعد نوعاً من المحرمات القومية. لذلك كان النظام الإقليمي العربي يعتمد في أساس استقراره وتوازنه على تفاهم رباعي بين أعمدة النظام (السعودية والعراق ومصر وسورية).
وإذا تعذر التفاهم الرباعي يحل محله ثلاثي (السعودية وسورية ومصر).
وآخر مرة تحقق فيها هذا الثلاثي كانت بعد سقوط العراق تحت ثنائي الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني منذ 2003.
لكن ذلك العام كان بدايةَ سقوطِ حرمةِ ليس التحالف مع بل الخضوع لنفوذ إحدى دول الجوار العربي.
هذا ما انتهى إليه الطاقم السياسي الذي جاء إلى حكم العراق على يد الاحتلال الأميركي مع إيران. وهو خضوع فرضه استتباع طائفي. ثم اكتمل سقوط هذه الحرمة بعد الثورة السورية التي دفعت النظام السوري أيضاً إلى الاحتماء بالتحالف مع إيران في وجه الثورة. وفي هذا أكثر من مفارقة. النظام الشيعي الإيراني، الذي ولد من رحم ثورة شعبية، بات رأس الحربة لوأد هذه الثورة في بلد عربي، تحت مظلة «شرعية» نظام هذا البلد. والمفارقة الأخرى أن النظام البعثي السوري، الذي تأسس على مبدأ القومية العربية يحتمي بنظام فارسي مناوئ بشراسة لهذا المبدأ.
هناك عنصر ثالث ساهم في تحييد هاتين المفارقتين وجعلهما تلتقيان في المنتصف، ذلك العنصر هو المضمون الطائفي العميق لكلا النظامين، وبالتالي حاجة كل منهما إلى هذه الحمية الطائفية لدى الآخر بمثابة سياج يبقي على الأسد في دمشق غطاء لتمدد النفوذ الإيراني من الرافدين إلى الشام. ثم هناك مفارقة ثالثة تفضح هشاشة المشهد، وهي أن العراق وسورية، اللذين حكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي بشعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، سلم الحكم في كل منهما نفسه لنفوذ فارسي معادٍ للبعث قومياً، ويكفره عقدياً، ويستهزئ بشعاره سياسياً. هذا مع ملاحظة أن البعث في العراق لم يسلم في الحقيقة نفسه للإيرانيين أبداً، وإنما اقتلعه الأميركيون بتعاون إيراني، والحكم الذي جاء بعده هو من سلم نفسه للإيرانيين.
أما في سورية، فإن البعث سلم نفسه أولاً للأسد، الذي بدوره سلم حماية حكمه للإيرانيين، ثم للروس والإيرانيين معاً.
كان لا بد من هذا التفصيل لتوضيح جانب للكيفية التي اكتمل بها انهيار النظام الإقليمي العربي.
مع هذا الانهيار دخلت المنطقة مرحلة حروب طائفية، وتدخلات خارجية، واضطراب في الأمن، وسقوط أنظمة، وتهديدات بالتقسيم.
كأن المنطقة العربية تعود إلى ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الأولى، واستعادة رسم خريطتها السياسية، وربما الجغرافية من جديد.
بات الوضع السياسي العربي في حال سيولة مربكة. تحالفات تنهار، وأخرى تتشكل. في مثل هذه الحال تصبح الحاجة ملحة إلى تحالف يضبط إيقاع الأحداث ويجعلها تحت السيطرة.
وإذا كان من مصلحة إيران إطالة زمن هذه المرحلة المربكة لإضعاف الدولة في العراق وسورية، بما يسمح لها بتعميق نفوذها هناك، فإن مصلحة السعودية وكل العرب عكس ذلك تماماً.
مصلحتها الاستراتيجية تقتضي استعادة العراق بوصفه دولة عربية مستقلة كما كانت عليه قبل التدخل الإيراني، وإخراج النفوذ الإيراني من سورية حفاظاً على عروبتها واستقلالها أيضاً.
من هذه الزاوية تأتي الخطوة التي أقدمت عليها السعودية الأسبوع الماضي لتأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي مع تركيا.
قد يتساءل البعض: لماذا تركيا وليس مصر، أو دول عربية مع مصر؟ والإجابة واضحة.
مصر في حال ارتباك، والدول العربية الأخرى إما ضحية لحرب أهلية، وإما في حال انكفاء، كما هي حال المغرب والجزائر مثلاً.
وفي سياق المرحلة وتحولاتها تختلف تركيا عن إيران. فتركيا ليست دولة سنية بالمعنى الذي تعتبر به إيران نفسها دولة شيعية.
تركيا دولة وطنية علمانية بغالبية سنية. وهي تختلف في أنها لا تعتمد آلية الميليشيا في دورها الإقليمي كما تفعل إيران، ولا تجعل من الطائفية معياراً أساسياً لطبيعة وحدود هذا الدور، كما هي الحال مع إيران أيضاً. يكفي لتأكيد ذلك علاقة الشراكة الضخمة التي كانت منتظمة فيها مع سورية قبل الثورة، وعلاقتها الاقتصادية الكبيرة مع إيران حالياً وهي خصمها في الساحة السورية.
ثم إن الحزب الحاكم فيها (العدالة والتنمية) ملتزم بمرجعية دستورية علمانية، وعلاقته مع الدول العربية مباشرة وليست من خلال تنظيمات وميليشيات كما هي علاقة إيران مع العراق وسورية ولبنان.
هل يمكن أن تتغير تركيا وأن يستخدم الحزب الحاكم فيها امتداداته الإسلامية في العالم العربي أساساً ومنطلقاً لتأسيس نفوذ له هناك؟ هذا سؤال عربي ينم عن حال شك مزمنة في كل شيء، وعن شعور بالضعف وعدم الثقة بالنفس، تغذيه الظروف العربية الحالية. السؤال الأهم الذي يفرضه الواقع العربي: لماذا لا يتم بناء تحالف مع تركيا كما هي عليه الآن، وبالمواصفات التي عليها علاقتها مع العالم العربي حتى الآن؟ سيكون التحالف معها في هذه الحال عامل تحصين لهذه العلاقة وترسيخ لها من الانزلاق إلى الحال التي يخشى البعض منها. ويبدو أن السعودية تنطلق من هذه الفرضية عندما قررت الدخول في مجلس للتعاون الاستراتيجي مع تركيا هو تحالف يهدف إلى وضع حد للنفوذ الإيراني، ولطموح طهران بجعل تحالفها الطائفي مع العراق وسورية عنصراً بنيوياً لنظام إقليمي في طور التشكل. في الوقت نفسه تحافظ السعودية على علاقتها الاستراتيجية مع مصر حفظاً للتوازن هنا. كان الأفضل لو أن مصر دخلت طرفاً ثالثاً في هذا التحالف. لكن القاهرة ترفض الفكرة من أساسها بسبب موضوع «الإخوان» الذي أصبح عقدة لعلاقات مصر الإقليمية.
هناك سؤال آخر ومشروع: هل يمكن هذا التحالف أن يكون تحالفاً طائفياً في مواجهة التحالف الشيعي الذي تقوده إيران؟ أولاً إن السعودية ليست دولة دينية مثل إيران. ثانياً تعتمد السعودية في سياستها الخارجية ودورها الإقليمي على المصلحة السياسية الوطنية والعربية، بدليل شبكة تحالفاتها، وعلى عكس إيران، شملت وتشمل دولاً عربية وغير عربية، وإسلامية وغير إسلامية، وسنية وشيعية.
لا ننسى أن من بين حلفاء السعودية في الأعوام الثلاثين الماضية كان العلوي حافظ الأسد، والزيدي علي عبدالله صالح، إلى جانب شراكاتها الغربية. ثالثاً يجب -تواصلاً مع ذلك- أن يطرح التحالف مع تركيا مشروعاً إقليمياً يرتكز إلى استعادة مفهوم الدولة الوطنية، وأن المواطنة بما تنطوي عليه من حقوق وعدل ومساواة بين الجميع هي أساس هذه الدولة، وأن الطائفية والانتماء المذهبي أكبر خطر على هذه الدولة، وهو الذي يعصف بها وباستقرارها الآن.
أخيراً مع أن مصر ليست بعد طرفاً في هذا التحالف، فإن موقع السعودية الحالي يسمح لها بأن تكون جسر تواصل، وربما تقريب بينها وبين تركيا ليس في وسع الرياض الاستغناء عن القاهرة. والعكس صحيح. لكن متى تخرج القاهرة من حساسياتها وارتباكها الحالي، وتقبل بأننا جميعاً ندخل مرحلة مختلفة؟ إذا كانت تريد القيادة فالكل سيقبل بها، شرط أن يكون هدفها متطابقاً مع أهداف الأمة وتطلعاتها. عندما كانت القاهرة تدعو إلى وحدة العرب وصيانة العالم العربي من التدخلات الأجنبية وجدت أن الشارع العربي يسير خلفها. الآن لا تعلن موقفاً واضحاً وحاسماً من التدخلات الإيرانية. ومع ذلك تبقى مصر حجراً من أحجار الزاوية ينتظره الجميع.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة