المجتمع المتوجس من الانفتاح يدشن الخوف والرقابة على أفراده، ويتحول أفراده دعاة خوف وتخويف تجاه بعض ويصبح الخوف عقيدة فردية وجماعية
ليس إنسانًا فاعلًا سويًا مثريًا مؤثرًا ذلك الإنسان المسكون بالخوف والتوجس والريبة والتوجس، ومن غير المحتمل والممكن أن يكون له أي قيمة ومعنى في أروقة نفسه والعالم حوله؛ لأنه يتفاعل في مشاركاته ورؤيته للأشياء من محازة الشك والعجز والإعاقة الشالة للإبداع، وللكينونة بما تشتمله من إمكانيات وقدرات لا تمتلك الفعل إلا في مناخ نفسي آمن مستقر.
من طبيعة مجتمعات الانكفاء أنها تخضع الأفراد لقوانين وعقل الجماعة وأيقونة المحاكاة والتقليد المنهجي، ما يعني رفض المبادءات والمبادرات الفردية المستقلة باعتبارها خروجًا وردة عن العقيدة الاجتماعية وحالة عصيان لا يتسامح معها، بالإضافة إلى أن الفرد في هذا المناخ المحموم أصلًا مثقل بالتخوفات التي تكرس في لاوعيه المحاذرة والتوجس من مناكفة الخطاب الجماعي المتغلغل في جذوره العميقة، وذلك ما يدعوه للتوازي مع هذا الخطاب السلطوي وإن ظاهريًا، ومن ثم المداهنة والمسايرة ومجاراة السائد حتى يظل تحت مظلة الطاعة التي تعني " الأمن الاجتماعي والنفسي " ، وهذا بالضرورة يصنع منه شخصية ذات رأسين فكريين: أحدهما سري متواري عن الرقيب الاجتماعي، وأحدهما ما يتم تسويقه ظاهريًا لمصالحه المجتمع وادعاء التماهي فيه، والذي يؤسسه الخوف.
في مثل هذه البيئة السلطوية الأبائية ترتبط مصالح الفرد المادية والمعنوية تمامًا بمدى تماسه وتماهيه بسلم القيم والعقيدة الاجتماعية، ولا معنى لفرديته بعيدًا عن السياق الاجتماعي، وذلك ما يجعله في تواصل والتحام بالخوف تعزيزًا لأمنه ومصالحه، ووجوده في الجغرافيا الاجتماعية المصمتة التي لا تمنح الفراغات للفردية.
إن رغبة التغيير الفردية في أي مجال حسي أو معنوي تعني المغامرة أكثر مما هي شجاعة، وهذا هو الواقع الحقيقي لبيئة التشابه التي نمذجت الأشياء بما في ذلك نمط التفكير وآلية الرؤية بأكملها.
بما أن أقوى مؤثرات المجتمع المنغلق قوة وسطوة الخوف "وذلك يتخلق من اللحظات الأولى لتشكل الوعي لدى الفرد " فإنه من الطبيعي لاشعوريًا أن يتجه في تكوين ذاته ومدركاته من خلال السير عبر طريق الخوف والمسايرة في كل منتجاته الذهنية والمعرفية والنفسية، ولذلك حينما يحاول فرد بيئة الخوف والتشابه تحديث ذاته وتحسين جودتها في عموم أركان ذاته وحياته، فإنه سيصطدم بذاته أولًا قبل أن يصطدم بمحيطه؛ لأنه سيدخل في صراع مع موجوداته الذهنية والفكرية والنفسية المتراكمة داخل طبقات بطانته الشعورية والتي نشأت في اللاوعي دون اختيار، والتي ستقابله بالرفض والتخوف نظرًا لوجود الرقيب الاجتماعي القار عميقًا في اللاوعي .
وليتجاوز فرد بيئة الخوف واقعه الذاتي رغبة في التحول والتغيير هو مرغم على الحسم مع نفسه قبل أن يتجه للحسم مع محيطة، وهذا شأن عصي، وذلك أن مأزق الإنسان من داخله وليس من خارجه، حيث تحكم الضمير الاجتماعي في لا وعيه متغور عميقًا، حيث فرد هذه البيئات ليس موجود أو متحكم حقيقة في ذاته بقدر حضور وسطوة الضمير الاجتماعي في كل تلافيف وعيه وتفكيره وانطباعاته وإدراكه للأشياء، وذلك بسبب حالة الامتثال والتسليم الذهني القسري الذي يتعرض له الفرد من قبل الوعي الجماعي منذ لحظات التكوين الأولى.
لماذا الخوف ومن ينتج الخوف ويستثمر في الخوف؟
طبيعة المجتمعات التقليدية وإن تمدنت ظاهريًا وانخرطت في التنمية والمعرفة والتحديث عمومًا، إلا أنها لا تزال تدرج وجدانيًا وذهنيًا في الطبيعة والوعي البدائي الذي يعتمد السلم التراتبي الرأسي في التحكم والتأثير، والذي يعني عدم التعاطي من خلال القيمة الأفقية التي تدشن المساواة والأفضلية من خلال العطاء والإنتاج والإبداع الفردي بصرف النظر عن خلفيته وماهيته، وهذا ما تفتقده البيئة البدائية الرأسية التي تجعل أفرادها متلقين وتابعين قسريًا لفضاء الأفكار والقيم الجماعية، وذلك من خلال القوة التراتبية التي تعتمد تسلط الأعلى بالأدنى والأدنى بالأدنى هبوطًا لا يتوقف.
الأمر الآخر أن معنى الفرد وفرادته وحريته يعتبر من غير المفكر فيه، بل ويعتبر من الموبقات والمحظورات؛ لأن ذلك يعني الخروج على مسيري المقدس الاجتماعي والديني وغيرهم من المستثمرين في التخلف والانغلاق والخوف الاجتماعي، والذين يدركون أن قيمتهم ووجودهم مرهون باستمرار هيمنتهم واحتكارهم للضمير والوعي الاجتماعي.
( الحصاد ) المجتمع المتخوف من التطور والتحديث بوصفه طارئ ثقافي يباين السائد المقدس يزداد تشبثًا بما يعتبرها خصوصيات دينية أو ثقافية خشية فقدان شخصيته وجذوره التي تعني له "وهمًا" الهوية والعمق والوجود ، وبرهان وهم شعور التمسك بما يعتبره المجتمع المحافظ هوية وعمق أنه على مدى عقود وهو يتخفف منها وتساقط لا شعوريًا تباعًا بفعل ضغط الواقع والنوازل وقوة التحولات، بالإضافة إلى قوة وسطوة المادة والانفتاح الاقتصادي.
بالضرورة فإن المجتمع المتوجس من الانفتاح يدشن الخوف والرقابة على أفراده، ويتحول أفراده دعاة خوف وتخويف تجاه بعض، ويصبح الخوف عقيدة فردية وجماعية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة