ما هى مواصفات «برنس البرانيس»؟ ما الذى يجب أن يتحلى به فيطلق عليه هذا اللقب؟ هل يكفى أن ألبس نظارة، حمراء كانت أو زرقاء
ما هى مواصفات «برنس البرانيس»؟ ما الذى يجب أن يتحلى به فيطلق عليه هذا اللقب؟ هل يكفى أن ألبس نظارة، حمراء كانت أو زرقاء، حتى ينعم على البائعون فى أى محل أدخله بشهادة دكتوراه شفهية؟ ما الذى يجعل البعض يثور ويغضب بشدة عندما لا يناديه الناس بالدكتور فلان، بل يعنفهم على ذلك، فى حين هو غير حاصل على الدرجة العلمية، وفى أغلب الظن اكتفى بالماجستير؟ وما الذى يدفع نساء ورجالا من حولنا لقبول أن ينعتهم المحيطون بما ليس فيهم، فلا يعترضون أو يصلحون الخطأ الشائع، بل «يعيشون الدور» الذى رسمه لهم الآخرون؟ ما الذى يجعل المجند يثنى على رئيسه «قناص العيون» فيقول له: جدع يا باشا! من أعطى الضابط الباشوية، بعد أكثر من ستين عاما على إلغاء الألقاب رسميا فى مصر بقرار من مجلس إدارة الثورة فى 4 سبتمبر 1952؟ لماذا يصر أبناء مهن محددة على قول «فلان بيه» عندما يخاطب زميله، كشكل من أشكال التبجيل والمحافظة على الرونق و«البرستيج» بغض النظر عن مستوى الأداء؟
***
الأسئلة أخذت تتدافع إلى ذهنى، وأنا عالقة فى زحمة المرور، أقف دون حركة أمام عربة فول وطعمية. صاحبها ومديرها، يتهادى على الرصيف تقريبا حافى القدمين، تدل ملابسه على رقة حاله، ويبدو سعيدا قانعا عندما يضيف أحد الزبائن، كلمة «يا باشا» فى نهاية الطلب: 2 ساندوتش يا باشا؟ أما هو فعند تعامله مع إحدى الفتيات يخاطبها باعتبارها «مزة»، مع أن هيئتها لا توحى بأى مظهر من مظاهر الأنوثة أو الدلال. أراد أن يرضى غرورها ربما، كما يفعل معه الآخرون من باب المجاملة والتفخيم والتواطؤ.
نوزع الألفاظ مجانيا على بعضنا البعض «يا برنس، يا باشا، يا نجم، يا بيه، يا معلم، يا حج، يا أمير،...» هل نحاول التمويه وتغطية الإحساس بالدونية؟ هل لا يمكن للفرد منا أن يكون مواطنا محترما دون هذه الألقاب؟ هل شظف الحال وفقر النظام يجعلنا نسترضى البعض بالألقاب حتى لو زائلة ووهمية؟ تذكرت حالات بعينها، عرفتها لسنوات، وضحكت ساخرة من حجم العقد النفسية التى نرتطم بها كل يوم.
***
نسبح فى فضاء ألقاب فارغة، لا تعنى أى شىء، كأننا نرفض داخليا فكرة العدالة الاجتماعية واحترام الشخص لذاته الإنسانية أو نحن إلى أيام مضت كان للأفراد والطبقات فيها تراتبية واضحة. هل فوضى الألقاب هى جزء من الفوضى العامة ولخبطة المعايير التى تعم المجتمع؟ فلا عم الشيخ شيخ ولا الأمير ينتمى للعائلة الحاكمة ولا الحج أدى الشعائر الدينية بالأراضى الحجازية... فالأطفال عندما يريد أحدهم أن يستعجل صاحبه يقول له:«اخلص يا عم الحج!»
نوزع الألقاب وكأننا قمنا بتأميمها لحسابنا لنثأر من الأيام والسنين، وكأننا نؤكد على انتمائنا للمجتمع نفسه بشفراته وأكواده.. كأننا نقول لمن هم فى سدة الحكم، نحن نعيد الاعتبار لبعضنا البعض، أنا أعترف به وهو يعترف بى، بعيدا عن اعتباراتكم، وخارج حدود المقاييس. لا ننتظر أن يعطينا أحد رتبة الباشوية بمرسوم ملكى أو أمر من خديوى مصر أو السلطان العثمانى كما فى السابق، وكان اللقب بالأساس يميز المحافظين وقيادات الجيش دون غيرهم، ثم أصبح يغدق به على أصحاب الجاه والمال والمقربين من السلطة، فكان هناك الأفندى والأغا، ثم البيك، ثم الباشا. ألغيت كل هذه الألقاب التى دخلت مصر فى عهد محمد على بعد ثورة يوليو 1952، وتم الاكتفاء بلقب «حضرة المحترم» فى جميع المكاتبات الرسمية. وفى ظل غياب «حضرة المحترم»، عبر الناس بشكل عفوى وتوافقى عن انعدام المقاييس والمنطق.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة