نهاية العام ليست كبداية الذى يليه، ينتهى العام عادة بحديث بائس عن أحداثه وآلامه، ويبدأ الجديد بمعايدات وأمانى وأحلام.
نهاية العام ليست كبداية الذى يليه، ينتهى العام عادة بحديث بائس عن أحداثه وآلامه، ويبدأ الجديد بمعايدات وأمانى وأحلام. الفارق بين نهاية العام وبدايته، ثوانٍ معدودة كتلك التى تفصل نهاية أى يوم وبداية آخر، لكن هناك دائما نعمة البدايات الحسابية الجديدة التى تعطيك ذلك الإحساس النفسى والمتعة الذهنية، بأن فرصا جديدة تلوح فى الأفق.
لن أتحدث فى هذه السطور عن توقعاتى للعام الجديد، فهى ليست بنفس قدر التفاؤل فيما يخص الأحلام والآمال، لدى من الآمال عشرة فى العام الجديد.
أتمنى أولا أن تعاد صياغة معادلة السياسة فى مصر، لتقوم على التوازن والفصل بين السلطات، وأن تتمحور جميع هذه السلطات حول مبدأ السيادة للشعب كمبدأ تأسيسى لأى دولة حديثة متقدمة ومتحضرة، يحصل فيها المواطنون على الحد الأدنى من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فى مقابل التزامهم بواجباتهم المنصوص عليها فى القانون والدستور.
أتطلع ثانيا أن ينتهى ذلك المولد حول منصب رئيس الجمهورية، بحيث يجد المنصب موقعه الطبيعى على رأس السلطة التنفيذية ورأس الدولة، ويتم إنهاء حالة التقديس للشخص الذى يشغل المنصب، ليتحول إلى مجرد موظف أعلى فى الدولة عليه نفس الواجبات وله نفس الحقوق كباقى المواطنين، ملتزما بالدستور والقانون. انتهت موضة القائد الملهم والزعيم المبجل من العالم المتحضر المتقدم، هناك مسئول أعلى فى الدولة، يتمتع بقدر من الاحترام والمكانة مساوية لنفس القدر الذى يحترم فيه هو الدستور والقانون والشعب.
أتمنى ثالثا، أن تقل المآسى فى مصر، مآسى انتهاك حقوق البشر، مآسى المعتقلين السياسيين والمختفين قسريا، أن تتمكن المؤسسات الحقوقية من فرض رقابة حقيقية على أوضاع السجون، وتبحث بجدية أكبر فى الشكاوى التى لا تنتهى حول انتهاك حقوق المساجين والمحبوسين احتياطيا.
●●●
أتمنى رابعا أن يتم تعديل الدستور، لا لزيادة صلاحيات الرئيس فى مواجهة البرلمان ولا لزيادة عدد سنوات فترته الرئاسية، ولكن لإلغاء مادة الحبس الاحتياطى أو وضع سقف لها، بحيث يحصل أى منهم على حقه الدستورى فى العرض على قاضيه الطبيعى بدلا من استخدام الحبس الاحتياطى كعقوبة فى حد ذاتها. كذلك أتمنى أن يتم تعديل الدستور لإقامة دوائر قضائية خاصة ومختلطة من قضاة عسكريين ومدنيين كبديل ضرورى عن المحاكمات العسكرية للمدنيين، بما يضمن توافر الفصل والتوازن بين المدنيين والعسكريين.
أحلم خامسا بالانتصار لمعانى الرقابة والمحاسبة والشفافية والمسئولية. أن تعلن دراسات جدوى المشروعات الكبرى، ألا تتحول كل سياسات السلطة إلى أعمال سرية بدعوى الأمن القومى، من حق الناس أن تعرف، ومن حق البرلمان أن يراقب، ومن حق الجميع أن يحاسب، لا يمكن أن يتم منع النشر فى كل شاردة وواردة، كيف يعرف الناس إذن؟ كيف يطمئنون على مستقبل أولادهم فى بلد كل شىء فيه محظور وممنوع؟ الأمن القومى لا علاقة له بالسرية، ولكنه مرتبط بالأساس بالشراكة فى صنع القرار وتطبيق قواعد الحكم الرشيد، للتأكد من عدم الانفراد بالسلطة من قبل أى شخص أو مؤسسة حتى لا تلقى مصر مصير الدول الجارة التى يحذرنا النظام دوما منه، وهو للغرابة يسير على نفس الدرب!
أحلم سادسا أن تنتهى فى ٢٠١٦ خرافات جهل الشعب وفقره كمبرر لحرمانه من حقه فى ممارسة الديموقراطية، وتعيين أوصياء عليه يتخذون القرارت بدلا عنه، فقد أثبتت التجربة، أن الشعب المصرى قادر على الاختيار وقادر على المحاسبة وقادر على الثورة، كما أن التجربة أثبتت أيضا أن الفقر والأمية لا يرتبطون بالضرورة بدرجة الوعى، فكم من غنى أو متعلم فى مصر أساءوا الاختيار والتقدير والتوقع وتصرفوا بهستيريا عبرت عن ضحالة فريدة وأنانية غير مسبوقة فى الشأن العام! نشتكى من الفقر والجهل منذ عقود لم نشهد فيها أى ملمح ديموقراطى، فكيف نصر على ربط الديموقراطية بالجهل أو بالفقر؟
●●●
أتمنى سابعا أن تشهد مصر فى العام الجديد توازنا بين الأمن والسياسة، بعد عقود من سيطرة الأمن على كل شىء. إذا ما أخذت السياسة حيزا من صنع القرار، فإن كثيرا من الأمور المائلة ستنضبط، وكثيرا من الخرافات ستنتهى، كما أن تلك التصورات الساذجة عن قيادة العالم ستوضع فى حجمها الصحيح.
أرجو أن تقل معدلات العنف والإرهاب فى مصر، صحيح أن الأخير يتخطى الحدود وأصبح له معاقل عدة لا تستطيع الدولة المصرية وحدها التحكم فيها، إلا أن الداخل المصرى يظل مؤثرا على خفوت أو توهج العمليات الإرهابية. مصر تحتاج إلى معادلة جديدة لمواجهة الإرهاب، بالاعتماد على الاستراتيجيات الأمنية فى المواجهات المباشرة والاستراتيجيات السياسية والثقافية فى المواجهات غير المباشرة. مصر تحتاج إلى إصلاح المؤسسات المنوط بها الانتصار للعدالة «القضاء، النيابة العامة، الداخلية»، وإلى إصلاح المؤسسات الدينية المنوط بها التنوير والتحديث فى الفكر الدينى.
أحلم ثامنا أن تتسع حرية الفكر والتعبير والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية للجميع، أن يواجه الفكر بالفكر، أن تختفى النعرات الطائفية، ألا يدخل الناس السجن بسبب أفكارهم أيا كانت، أن يتوقف رجال الدين وعلماؤه عن ممارسة الكهنوت، عن الحديث الحصرى باسم الله، عليهم أن يتركوا مساحة للناس كى يتعرفوا على الله بأنفسهم دون احتكار وسائل التواصل بين الناس والله، أن تختفى الفتاوى أو العظات المسيسة، رجال الدين وعلماؤه فى مصر أضعف بكثير من اتخاذ مواقف سياسية لأسباب هيكلية وثقافية، لا نطالبهم بتحمل أثمان لن يستطيعوا دفعها، فقط نطالبهم بالسكوت طالما تعلق الأمر بالشأن العام! أتمنى أن تنتهى سياسات تأميم الإعلاميين، وتحويل بعضهم إلى أبواق للسلطة، أن ينتبه شباب الإعلاميين ومنهم كفاءات ومواهب حقيقية أتشرف بصداقتها إلى محاولات حرقهم واستخدامهم المستمرة بواسطة السلطة، سينجح الإعلاميون الجدد بالانحياز لقواعد المهنة وممارستها باحترافية، سينجحون حين يقررون محاسبة السلطة والانحياز للشعب، وإيصال صوت الأخير لا العكس.
●●●
أتطلع تاسعا إلى عام تجبر فيه خواطر البشر، تخفف فيه آلامهم وأحزانهم، إلى عام يحصلون فيه على بعض العدالة وبعض الأمل غير الزائف، على صحة وتعليم ومواصلات وأمن أفضل، على عدالة اجتماعية تمكنهم من العيش الكريم بعيدا عن العوز والانكسار أمام أصحاب السلطات والعطايا، أن يحصلوا على حقوقهم الأساسية دون استجداء أو استضعاف، أن يكونوا فى النهاية هم الأصل فى حسابات السلطة وليسوا مجرد أرقام وإحصاءات تضرب وتجمع وتطرح.
وأتمنى أخيرا أن تعود مصر إلى مكانتها الطبيعية والحقيقية لا بسياسات الدجل والشعوذة، ولكن باحترام العلم والعقل والرشادة، بتمكين علماء الوطن الحقيقيين وإنهاء معاناتهم، بوقف التدخل والتضييق على البحث العلمى، بإنهاء أزمة هجرة العقول التى ضاقت بها سياسات التجهيل والتضييق فغادرت للحفاظ على قدراتها والحصول على المكانة التى تستحقها.
صحيح تظل كلها أحلام وأمنيات، وصحيح أن التوقعات أقل بكثير من هذا السقف المرتفع، وصحيح أيضا أن الفاعلين المسيطرين على مقاليد الحكم لا يبدو أنهم راغبون ولا قادرون ولا حتى مستوعبون لخطورة الأوضاع، ولكن يظل الأمل فى الله، فى إرادة الشعب، وفى دروس وعبر التاريخ.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة