يعيش المسلمون فى مختلف مناطق العالم، وخصوصاً فى العالم العربى حالة من الارتباك الفكرى والثقافي؛ خلقها الارباك الدينى المستمر
يعيش المسلمون فى مختلف مناطق العالم، وخصوصاً فى العالم العربى حالة من الارتباك الفكرى والثقافي؛ خلقها الارباك الدينى المستمر - منذ قرن ونصف من الزمان - بصورة عفوية أو متعمدة، وذلك أنه منذ المواجهة الحضارية الصادمة مع الغرب فى الحملة الفرنسية، والمصريون حائرون بين دينهم وحضارتهم وتاريخهم وتراثهم من جانب، والعصر الحديث وحضارته التى صنعتها أوروبا من جانب آخر، وهذه الحيرة الدائمة المستمرة تحولت الى آلية لارباك المجتمع والدولة، بل لارباك الأمة العربية والإسلامية لأنه لم يتم - حتى الآن - التعامل مع جذور هذه الاشكالية بصورة منهجية هادئة وموضوعية ومخلصة.
فقد تحولت كل محاولات تحقيق المواءمة بين الدين والعصر الى عملية انتهازية مصلحية من جميع الأطراف: الاسلاميون يتخذونها ذريعة للهيمنة على المجتمع، والوصول الى السلطة لنوازع شخصية أوحزبية دنيوية؛ تم الباسها لباساً دينياً لتسويغها على العوام، والليبراليون واليساريون والعلمانيونة.الخ يتخذونها وسيلة للتخلص من كل التراث والتاريخ والدين ومتعلقاته، لأنه فى نظرهم مصدر للرجعية والجمود والانغلاق؛ والمجتمع حائر بين الاثنين؛ يتقاذفونه ويلعبون بها لأغراضهم السياسية والحزبية والشخصية.
فقد رُفعت شعار تجديد التفكير الديني، واصلاح الخطاب الدينى، ومحاربة الفكر المتطرفة.الخ، وللأسف تحولت هذه الشعارات الى وسيلة للثأر من المؤسسة الاسلامية التقليدية ممثلة فى الأزهر، وذريعة للانتقام من الخصوم السياسيين، فلم يتم تجديد ولا اصلاح، وانما تم العبث بالدين والتراث من خلال التعامل بمنهجية «حاطب الليل» الذى قد يجمع حطبا وخشبا أو يأتى بثعبان قاتل، أو بمنهجية «ردح الراقصات وبنات الليل» والسباب والشتائم والسخرية من العلماء والصالحين الذين أصابوا وأخطأوا، ولكن لا يجوز أن نسبهم ونسخر منهم، بل يجب أن ننقدهم ولكن بشروط أساسية هي: أولا، أن يكون النقد من أهل الاختصاص، وليس من المراهقين والمذيعين أنصاف الجهلاء الذين لم يفنوا عُشر أعمارهم فى تحصيل أى علم؛ ناهيك عن علوم الدين. وثانيا، أن يكون النقد فى دوائر أهل العلم، وفى رحاب الجامعات ومراكز البحوث، ثم يخرج للعوام بالصورة التى تناسب عقولهم ولا تحقق عكس المقصود من خلالهم دفع العوام للتطرف والعنف. وثالثا، أن يكون النقد بقصد الاصلاح والتطوير والتقدم للامام محافظين على ديننا وهويتنا وتراثنا، وليس هدم التراث والخروج من الدين.
وللأسف الشديد، لم يحدث شئ من هذا منذ حوار الدكتور اسماعيل أدهم مع الاستاذ محمد فريد وجدى 1934م، فقد كتب الأول «لماذا أنا ملحد» فرد الثانى بمقال «لماذا هو ملحد» فى حوار راق وعظيم وعميق. منذ ذلك التاريخ لم يحدث أن دار حوار بهذا الرقى العلمي، وعلى العكس منذ الثمانينيات من القرن الماضي، كانت كل المحاولات التى أعلنت أنها تقوم بمواجهة الفكر المتطرف أو الرجعى أو المنغلق، كانت سببا فى انتشار هذا الفكر وتوسعه وتمدده..وهنا سنرى السبب الكامن وراء تحول محاولات محاربة التطرف والارهاب الى أسباب وذرائع لصناعة التطرف والارهاب وانتشاره.
عند التعامل مع الاسلام لابد أن ندرك أن له ثلاثة وجوه أو ثلاث طبقات هي: أولا، الدين السماوى الذى نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ محصورا فى القرآن والسنة، وثانيها، الهوية والثقافة الاسلامية التى خلقتها المدارس الفقهية، والنظم والقوانين المستمدة من الشريعة، والأعراف التى توارثها المسلمون فى مجتمعاتهم المختلفة، وثالثها، الايديولوجيا السياسية التى صاغتها وسوقتها الحركات المجتمعية والسياسية التى ظهرت فى القرن العشرين، والتى بدأت توظف الاسلام الدين، والاسلام الثقافة فى مشروعها السياسى سواء ضد الخصوم والأعداء الخارجيين، أو ضد الدول التى يعيشون فيها، ويطمحون فى حكمها.
هذه الوجوه الثلاثة تتعايش معاً وكأنها ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، لا يستطيع الانسان العادي، أو حتى المتعلم بسيط الفكر أن يدركها، ويحرص المنتسبون الى الجماعات والأحزاب السياسية التى توظف الاسلام لتحقيق أهدافها على أن يخلطوا بين هذه الطبقات أو هذه الوجوه لتمرير أيديولوجيتهم السياسية، وتسويقها، وتقديمها على أنها هى الاسلام، وأن ما عاداها خروج عن الاسلام، أو نقصان فى التدين، أو أحيانا كفر بواح، وانكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وهذا الحال أدى الى درجة من الارباك والتشوه فى الثقافة الاسلامية المعاصرة؛ التى أصبحت تخلط بين الدين والثقافة والأيديولوجيا؛ خلطا يجعل من الجميع دينا لا يحيد عنه الا كافر به، وهنا أضفيت قداسة الدين على أفكار البشر، وعلى ممارسات المجتمع، وعلى طموحات السياسيين والانتهازيين، وأصبح على المجتمع المسلم، الذى تنتشر فيه الأمية، أن يتبع هذه الخلطة الفكرية والفقهية والثقافية، وأن يطبقها فى حياته، وأن يقدم حياته فداء لها، وجهادا فى سبيلها.
وفى مواجهة هذه الحالة ظهرت محاولات متعددة من مثقفين وكتاب وأساتذة جامعات، غالبيتهم يفتقدون الى التخصص العميق فى علوم الدين، أو فى التراث، ويهدفون الى تثوير المجتمع ضد هذا الفهم المغلوط للاسلام الذى يخلط الدين بالثقافة بالسياسة، ويحول الدين - الذى هو قوة دافعة لبناء الحضارة- الى معيق للتقدم البشرى والتطور الاجتماعى والاقتصادي، وللأسف الشديد دخل فى هذه الدائرة فى أيامنا هذه شباب مراهقون؛ يحلمون بالنجومية والمال والمكانة، ويستعجلون الوصول الى ذلك من خلال التجرؤ بطريقة غريبة على العلم والتاريخ والتراث، جرأة تعالج - فى نظرهم- قلة العلم وضعف المنهج، وتضعضع التكوين العقلي، فأصبحت وسيلة التغيير عندهم هى السباب والشتائم، والتنقيب فى مزابل التاريخ، لالتقاط جملة من هنا، وأخرى من هناك لتبرير مواقفهم ودعم حججهم الضعيفة.
هذه الحالة التى تدعى أنها تحارب التطرف والارهاب والاخوان والسلفيين الخ هى فى الحقيقة تدفع آلاف الشباب للالتحاق بداعش وليس بالاخوان أو السلفيين فقط .لماذا؟
لأن هؤلاء وفى مقدمتهم المراهق الذى أصبح مثار اهتمام كل منافقى حقوق الانسان الانتقائية، يعلنون أنهم اما يحاربون توظيف الدين فى الايديولوجيا السياسية للأحزاب الاسلامية، أو أنهم يكشفون مشاكل التراث، ويقومون بذلك باطلاق ثورة ثقافية .ولكن، نتيجة لضعف تكوينهم؛ فإنهم يتحولون بأيديهم الى صناع مهرة للارهاب والتطرف، لأنه وببساطة يقومون بتجنيد المسلمين العاديين للانضمام الى جماعات التطرف والعنف والارهاب؛ من خلال هجومهم على الرموز التى يحترمها المسلم العادي، ويقدسها فى بعض الأوقات، فاذا قلنا إن المتطرفين يشكلون نسبة ضئيلة بين المسلمين لا تصل الى 1%، فان هولاء الذين يدعون أنهم يحاربون التطرف يدفعون كل يوم أعدادا من الشباب للانتقال من حالة المسلم العادي، الى حالة المسلم المدافع عن دينه أمام هذه الهجمة الجاهلة التى تسخر من رموز، هو يراها مقدسة أو محترمة، وهم يسبونها ليل نهار.
لقد كان أبى رحمة الله عليه اذا ما قام بالصلح بين متخاصمين، يقول لي: «روح البيت وهات البخارى يحلفوا عليه» وكنت أذهب وأحضر كتاباً فى كيس مغلق من القماش، ولما كبرت فتحته فوجدته القرآن الكريم .الفلاح المصرى يقدس البخاري، والبحيرى وعيسى يسبونه جهاراً نهاراً…..من يصنع التطرف اذن؟
التراث يحتاج الى اصلاح وغربلة وتصفية جذرية، يقوم بها العلماء وأهل الاختصاص، وتدخل فى مناهج التعليم، وتقدم للعوام دون أن تصدم مشاعرهم، وتدفعهم للوقوع فريسة لمن يستخدم اسلام البحيرى وابراهيم عيسى ومحمد عبدالله نصر وغيرهم حجة على أن الدين فى خطر.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة