يصعب فهم قرار المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء باعتماد بدل نقدى سخى بقيمة ألف جنيه شهرياً لأئمة ووعّاظ المساجد
يصعب فهم قرار المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء باعتماد بدل نقدى سخى بقيمة ألف جنيه شهرياً لأئمة ووعّاظ المساجد مقابل مساهمتهم فى إلقاء خطبة الجمعة، بدءاً من أول يناير فى العام الجديد، على أن تُصرَف 250 جنيها من ميزانية الأزهر وأن تتحمل خزانة الدولة 750 جنيهاً! وسوف يستفيد من القرار أيضاً مفتشو الوعظ، ومفتشو العموم، ومديرو الإدارات، ومديرو عموم الوعظ، والوكلاء المختصون بشئون الدعوة والإرشاد الدينى والوعظ، وسائر القيادات الدينية المعنية بذلك فى الأزهر الشريف. بما ينطوى على تقدير كبير لعملهم من ثانى أكبر مسئول فى الدولة! ولكن هذا الموقف يبدو متناقضاً فى الوقت الذى ينتقد فيه الرئيس السيسى رجال الدين، فى حضور كبار شيوخهم فى الأزهر والأوقاف والإفتاء، ويطالبهم صراحة وبكلمات واضحة بوجوب قيامهم بتجديد وإصلاح الفكر الدينى وخطاب الوعظ ومناهج التعليم فى الأزهر وتنقية كتب التراث، بل وإعلانه إبراء ذمته مما يفعلون إلى حد أنه سوف يحاججهم أمام الله يوم القيامة.
هؤلاء الذين يرفض الرئيس أداءهم موجودون، وفق كلام واحد منهم، فى كل ربوع ونجوع مصر وفى معسكرات القوات المسلحة ومعسكرات الأمن، وفى المدارس والسجون والمصانع وأقسام الشرطة ولجان الفتوى فى كل المحافظات.
هؤلاء درسوا ونجحوا وتحصلوا على شهاداتهم بعد أن أثبتوا هضمَهم واستيعابَهم وحماسَهم للمناهج الدراسية التى يؤيد الرئيس المطالبات المُلِّحة بضرورة مراجعتها وإصلاحها بعد أن افتُضح ما فيها من تطرف وغلو تتجاوز مخاطرُه التسبب فى فتنة طائفية فى البلاد، والتحريض على العنف ورفع السلاح، إلى حد التخريب المباشر فى الإقليم وعبر العالم! وليس إرهاب داعش وشركاه سوى عَرَض من أعراض الكارثة بعد المرونة من رجال الدين أمام إجرامهم، بل والالتواء فى تبرير ما يعجز الناس عن تصديقه وتحمله.
لقد ثار الشعب على نظم الحكم الغابرة وأصرّ على التخلص منها، وهى التى تواطأت على الخضوع لابتزاز المؤسسات الدينية، وأحياناً بقصد إرضائها لتبادل المنافع، وتوالت التنازلات حتى صار للأزهر هذه المكانة الاستثنائية فى الدستور فى المادة السابعة، بما يمكن أن يتسع معناه ليشمل أبعاداً لا يمكن حصرها، فى ظل ما تقرره المادة الثانية. كما أن القانون قد منحهم، ضمن ما منحهم، خط إنتاج متكاملاً لا ينازعهم فيه أحد، يقررون فيه بأنفسهم أن بعض الكتب يجب مصادرتها، ثم يقومون بالمصادرة بأنفسهم! وهو ما حدث الأيام الماضية على الأقل فى محافظتين: صادروا من المساجد 160 كتاباً هناك، و350 كتاباً هنالك، وحدُهم دون شرطة ولا نيابة ولا قضاء، وقالوا إنها كتب تحمل أفكاراً هدّامة ومتطرفة ضد وسطية الإسلام وسماحة الدين.
وقد صار لهم قاعدة قانونية تسمح لهم باستنزاف الأدباء والمفكرين والفنانين وكل صاحب رأى لا يرضون عنه. وقد شهدت المحاكم عبر العقود الماضية دعاواهم التى تسير على خط قديم مستقر تزعم حماية الدين والأخلاق من الكفر البواح ومما يحرض على الفسق والفجور، وكان ضحاياهم من أكبر العقول التى أنجبتها مصر، ومن أفضل أصحاب المواقف الوطنية، ومن لهم تاريخ نضالى لا ينكره إلا جاحد للحق.
بل وقد صار بإمكان من لا ينتمى لفكرهم ولتيارهم أن يوظف نفس القانون فى سبيل ما يراه، فقد أمر النائب العام قبل أيام بإحالة بلاغ من أحد المحامين إلى نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق ضد الفتاة الأزيدية ضحية العدوان الهمجى من داعش، حيث يتهمها المحامى بمحاولة الإضرار بالأمن القومى المصرى، بسبب دعوتها طلاب الجامعات إلى تنظيم مظاهرة مليونية ضد داعش!
فى هذا السياق، الرافض لحرية التعبير ولروح البحث العلمى، جاء الحكم بحبس إسلام بحيرى، بقوانين لم يضعها القاضى، وإنما صدرت رسمياً من جهة التشريع التى لم تكن تملك قرارها، بل كانت تنفذ تعليمات الاستبداد الذى يتنازل أو يتواطأ مع رجال الدين والمؤسسات الدينية.
وهو ما يلزم أن يتنبه له من يتساهلون بإدانة القضاء الذى لا يملك إلا أن يُنفِّذ القانون القائم، عملاً بأبسط القواعد واجبة الاتباع فى مبدأ الفصل بين السلطات.
لا فكاك من أن تُعالَج المشاكل من المنبع، أى من البرلمان، بوجوب إصدار التشريعات التى تلبّى شعارات الثورة التى دفعت ضريبة الدم فى سبيل الدولة الحديثة دولة القانون التى تحترم الدين والتدين ولكنها تحمى البلاد من الحكم الدينى. بما يعنى عملياً، ضمن ما يعنى، تأصيل الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير، ووضع تدابير لحمايتها من الانتهاك.
يبدو أن أهم معانى 30 يونيو تغيب عن كثير من رجال الدين الذين يصرّون على المضى فى سبيل أعلن الشعب رفضه، وكأن هناك من يدفع بالتصادم مع المدافعين عن الحريات التى ينصّ عليها الدستور وتقرّها مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية الملزمة، وخاصة فيما يتعلق بحرية التعبير وحرية الاعتقاد.
ولكن هناك، ممن تحصلوا على مكافأة رئيس الوزراء وقيادتهم، من يتساهلون فى تكفير المخالفين فى الرأى، بل وإهدار دمائهم! ومن الغريب أن بعض التليفزيونات تستضيفهم بزعم مناقشتهم، وهى فرصة لهم لعرض أسبابهم والترويج لأفكارهم، وكأن هذه الجرائم هى التى تدخل فى إطار حرية التعبير!
وقد أدى هذا العناد إلى بزوغ ما كان يستحيل تخيله قبلاً، من إدانة علنية لمؤسسة الأزهر، بل والدعوة التى على قيادة الأزهر ألا تستهزئ بها، بل أن تأخذها بكل جدية، والتى يطالب أصحابُها بتقديم شكوى ضد الأزهر فى المحاكم الدولية يثبتون فيها العلاقة الوطيدة بين ما يتعلمه دارسو الأزهر ويمارسونه، وما تتخذه قياداتهم من مواقف عملية، وبين ظاهرة العنف التى تضرب الإقليم والعالم.
أضف إلى ذلك أن الأزهر كسب عداء جماعة الإخوان، وقد ثبُت أنه لا خلاف بينهما فى النظر، وإنما على من تكون له الكلمة، وهناك العداء السابق والمتزايد من الجماعات الإرهابية الصغيرة التى ترى الأزهر فى ذيل السلطة، وهناك الخلاف مع السلفيين الذى تتجلى أحواله يومياً، وقد جاءت مكافأة رئيس الوزراء الأخيرة لتستفزّ فئات أخرى. وقبل كل ذلك هناك إصرار على عدم استخلاص العبر من تجربة الفاتيكان الذى كان يحكم أوروبا ثم انكمشت سلطتُه الرسمية فى مساحة أقل من وسط البلد.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة